آخر المواضيع

mardi 26 novembre 2013

تشكلات الفكر الإسلامي المعاصر

لقد كان لتألُّق النزعة الإنسانيَّة في أوربا، وما حقَّقتْه الحداثة من إنجازات على المستوى العلمي والفكري والفلسفي من جهة، وظهور الدَّولة القومية المركزية في الغرب من جهة أخرى، نتيجة لارتفاع "أنا" الإنسان واعتداده بنفسه، حيث صار الإنسان مرجع ذاته في كلّ المجالات، ولم تكن هذه الذَّات التي تألَّقت في سماء الإنسانية إلاَّ الذات الغربية بنزعتها المركزية، حيث غدَا كلّ ما عداها داخلاً في مجالِها الحيوي، خاضعًا لسيادتِها العلميَّة، وفي نطاق اكتِشافاتها بحكم تفوقها.



غير أنَّ هذا التفوّق عمَّق في الذَّات الغربية مهمَّة حضاريَّة عليه تبليغُها، هي ما اصطلح عليها بمهمَّة الإنسان الأبيض، لم تكن هذه المهمَّة الحضاريَّة إلاَّ النَّزعة الاحتِلاليَّة الَّتي اكتشف بها الأمريكَتَين، ثمَّ طريق رأس الرَّجاء الصَّالح، الذي ولج منه إلى خيرات العالم العربي والإسلامي.



فبالرغم من العقلانيَّة التي ادَّعاها العالم الغربي بقيت أحلامُه الطفولية عن "الألدورادوس" أرض الذَّهب والكنوز، تدغدغ طموحه، "حيث لم تشهد الإنسانيَّة تعطُّشًا عارمًا للذهب كما كان ذلك بعد اكتِشاف المستعمرات"[22].



لقد كان العالم الإسلامي مجالاً خصْبًا للجشع الأوربي لتحقيق أحلامه، خاصَّة مع ما كان يشْهده من انقسام وتفتت على المستوى السياسي، واضمحلال وتقَهْقر على المستوى الثَّقافي، حيثُ لَم يستطع إثبات ذاته أمام تضخُّم "الأنا" الغربيَّة وشجَّعها، فكان أن وقع تحت نفوذها الاحتِلالي بمسمّيات عدَّة.



في ظلّ هذا الوضع كانت الأمَّة الإسلاميَّة تشهد انقِسامات عدَّة، خاصَّة على المستوى السّياسي، حيث تقَهقرت مكانة الخلافة العُثمانيَّة أمام الدّول الأخرى، وتضعْضع سلطانُها في نفوس المسلمين، بما آلتْ إليه مقاليد الأمور من استِبداد وتحكّم العصبيَّة التّركيَّة في الحكم من جهة، وتهلهُل المستوى العلمي والثَّقافي والرّوحي من جهة أخرى، الأمر الَّذي أفضى إلى غليان داخلي ينفجر بين الحين والآخر في شكْل تمرُّد على الحكم من طرف عامَّة المسلمين، أو حركات انقلابيَّة مناوئة للسلطة السياسيَّة من طرف بعض القادة السياسيّين أو المصْلحين، ولكن بالرَّغم من كلّ هذا، بقِيت الأمَّة الإسلاميَّة تحتفظ بشعور عميقٍ بهويَّتها واستِقْلاليَّة سيادتِها على كافَّة المستويات؛ خاصَّة إزاء أوربَّا، فكانت ردَّة الفعل الأولى في محاولة إثْبات ندّيَّة المسلمين للغرْب بتدارُك النَّقص العلمي لردْم الهوَّة السَّحيقة الَّتي عمَّقتْها أوربَّا بتطوُّرها العلمي الهائل، لكن أوربَّا التي أطلقت على الخلافة العثمانيَّة اسم الرَّجل المريض، كانت تنظر إلى الإرث الَّذي يمكن أن تناله بعد موته، فعمِلت على تعجيل موته واقتسام خيراته، ومن هنا انجلى سحر شعارات النزعة الإنسانيَّة التي رفعتْها أوربَّا طويلاً حين نزعت نحو السياسة الاحتِلاليَّة، "إنَّ مفارقة هذا التجلّي المزْدوج أنَّ أوربَّا اتَّبعت منحاها الذَّاتي؛ أي: الانتِقال من نمطٍ اقتِصادي إلى آخَر، ومن أسلوب حضورٍ في العالم إلى آخَر"[23].



في خضمّ هذا المسار التَّاريخي لتطوّر الأحداث كان حضور الفكر الإسلامي في أغلبه عبارة عن ردود أفعال لا غير، تمثّل في بداية الأمْر في محاولات الإصلاح والتحديث، وترميم الجهاز الفكري والثقافي والعلمي المهترئ بالمقارنة مع تألق نظيره الأوروبي، ثم التوعية الدينية والتعبئة السياسية لرد العدوان الأوروبي عن الديار الإسلامية.



لقد كان للتفوّق العِلمي الَّذي بهرتْ به الحضارة الغربيَّة العالم الإسلامي في انحداره إلى قاع التخلف - دورٌ كبيرٌ في تحديد وجهة الخطاب الإسلامي، حيثُ وقف العالم الإسلامي أمام النَّهضة العلميَّة والفكريَّة الغربيَّة، وشعارات النَّزعة الإنسانيَّة، عاجزًا عن مجاراتها، الأمر الَّذي أدَّى إلى صدمة حضاريَّة قادتْه إلى محاولة استيعاب الفكر الغربي للَّحاق بركب النَّهضة، وقد كانت البداية من رفاعة الطهْطاوي وخير الدين التونسي، اللَّذين عايَنا مظاهر التقدُّم في أوربَّا، ليس على المستوى العلمي والفكري فحسب، بل حتَّى على المستوى الاجتماعي، فجاء خطابُهما صريحًا للدَّعوة إلى اللحاق بركب التقدُّم بالعلم والتقنية على المستوى العلمي، والتحرُّر والعدالة والمساواة وتحرير المرأة على المستوى الاجتماعي، وكذا "مَأْسَسَة" النظام الإداري للحكم وتقنينه على المستوى السياسي، بل كان الطهطاوي أكثر جرْأة في نقل القانون المدني الفرنسي، والدستور الفرنسي، والنشيد القومي الفرنسي إلى العربيَّة والتغنِّي به[24].



لقد تمخَّضتْ هذه الرؤية عن تصوّر لواقع الإنسان المسلم المتخلّف، والذي لا يمكن أن ينقذه من تخلفه هذا إلاَّ اقتفاء أثر الغرب في الأخذ بالعلم والعقلانية، وتجسَّدت هذه النَّظرة في كتابات العديد من الأُدباء والمفكِّرين والعلماء مثل كتابَي الطهْطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، و "مباهج الألباب المصريَّة في مناهج الآداب العصريَّة"، وكتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" لخير الدين التونسي، ثمَّ جاءت بعدهما مؤلَّفات عدَّة، مثل: "التَّفسير العلمي للقرآن الكريم" لطنطاوي جوهري، والَّذي حاول فيه تتبُّع منهج التَّفسير العلمي لكلّ آيات القرآن، وكذلك طه حسين في كتابه عن "الشِّعر الجاهلي"، والذي حاول تتبُّعه بالمنهج الجينالوجي.

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة