آخر المواضيع

mardi 26 novembre 2013

تجديد الفكر الإسلامي

أ.د. محمد بن أحمد الصالح
الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على أركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ونريد أن نقنع المسلم بأنه يعتنق أكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه ومثله ومقاييسه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع، كما نعمل على إقناع غير المسلم بهذا المعنى حتى لا يتصور الإسلام دعوة عصبية أو قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعرف أن ما جاء به الإسلام إنما هو برنامج عملي إصلاحي للبشرية كافة، قال تعالى:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها" وإذا كانت العبادات قد استقرت وأصبحت توقيفية لا يدخلها التبديل ولا التغيير، فإن أمور المعاملات قابلة للتجديد والتطوير، الذي يعتمد على الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على ركنين: اعتماد على الأصول، واتصال بالعصر، أما الاعتماد على الأصل فنحن نعتمد على الشرعية التي تقوم على الثوابت الكبرى، وهي حفظ الضروريات الست: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض وعلى القيم الأخلاقية.  وشريعة الإسلام قد اتسعت في كل عصر ومصر عبر آلية الاجتهاد والتجديد، ولهذا قال فقهاؤنا: إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأعراف، فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي الإمام أبو حنيفة قد خالفوا إمامهم في كم هائل من مسائل الفقه، وقالا: لو رأى إمامنا ما رأينا لغير رأيه بناء على ما طرأ من تغير الزمان والمكان وتطور في مسيرة الحياة.  وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي أثر عنه المذهب القديم لما كان في العراق، ولما تحول إلى مصر دون مذهبه الجديد بناء على تغير الأحوال والأعراف، وهذا الإمام أحمد رضي الله عنهم جميعاً يؤثر عنه في المسألة أكثر من رواية إما من باب التيسير أو الاعتماد على نص علمه.  إذن فأعمال الاجتهاد والتجديد ضرورة ملحة لاستيعاب قضايا العصر ومتطلبات الحياة، من خلال الثبات على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية مع المرونة في الوسائل ودقة الفهم وإدراك المصلحة.  والتغيير في الأحكام يعني: تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يندرج تحت قوله تعالى:"بسم الله الرحمن الرحيم*ألم*ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين*الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون*والذين يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون*أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"، وقال عليه الصلاة والسلام:"بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت".  وهذا يقتضي أن من يتصدى للفتوى في قضية الأحكام أن يكون لديه الأهلية في العلم والفهم والإدراك، قال تعالى:"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب" [الزمر:9]، وقال تعالى:"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، وقال تعالى:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [آل عمران:18].  ولكن -ويا للأسف- نعيش اليوم في عصرنا مع شباب حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، لم يأخذوا العلم عن الثقات ولا عن مصادر العلم الأصيلة، ولم يستمعوا لقول الله تعالى:"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، كما أن هؤلاء لم يرجعوا إلى الراسخين في العلم، وإنما قرأوا جملة من الآيات أو جملة من الأحاديث ثم نصبوا أنفسهم للإفتاء بآراء شاذة ومنحرفة، فأخذوا يكفِّرون الأمة ويفسِّقونها ويجهلون العلماء ويسفهونهم ويخوضون في أعراضهم، ويسعى هؤلاء الشباب في تضليل الناس ووصفهم بالابتداع، ويصدرون من الفتاوى ما يؤدي إلى الفتنة والبلبلة والاضطراب، ويخوضون في القضايا الكبرى للأمة ومصالحها العليا، وهذا من الفتن العظيمة ومن الشر المستطير، فيجب على العلماء وأولي الأمر والرأي أن يتصدوا لهؤلاء ويبعدونهم عن الساحة؛ ليسلم الناس من هذا الهراء ولا يتصدى للفتوى إلا الراسخون في العلم، ومن وهبهم الله فهما دقيقاً وفقهاً عميقاً، ولهذا نرى أن الصيغة المثلى في علاج قضايا الأمة وحل مشكلاتها إنما تتحقق بالاجتهاد الجماعي الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته وتحدياته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع، فالاجتهاد الجماعي أقرب إلى السداد وأبعد عن الخلاف في مثل هذه القضايا.  ونحن نعتز بديننا ونفاخر بتراثنا المستخلص من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.  وإذاً فلا بد أن نستفيد من الماضي ونعيش الحاضر ونستشرف المستقبل، ونعمل على علاج قضايا الناس وحل مشكلاتهم، معتمدين على النص الشرعي مع الاستنارة بالعقل، والنظر في المصالح والعمل على تكثيرها، والقضاء على المفاسد وتقليلها في كل مجالات الحياة، فالأمر بالمعروف هو من الصفات الخيرة في هذه الأمة، قال تعالى:"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران:110]، وقال تعالى:"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران:104].  ولكن لا بد من الحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مجريات الأمور، وما ينشأ عن هذا الأمر من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ولا بد من الموازنة بين الخير والشر، وما يترتب على هذا التصرف من المآل والآثار، فليس كل منكر نراه نحمل عليه سيف التغيير والتبديل إلا بعد ما ننظر إلى ما يترتب عليه من أثر، فإذا كانت المفاسد المترتبة على التغير أكثر فلا يجوز الإنكار، وإذا كانت المصالح أكبر وأرجح فلا بد من الإنكار فهذا يدركه أهل النظر والوعي وأهل الحكمة وأولو الأمر الذين يقدرون المفاسد ويدركون المصالح.  وهذا يتمثل فيما قاله الإمام سفيان الثوري رحمه الله:"لا بد لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يتحقق فيه ثلاث: أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه.  وقد أثر عن الإمام الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، أنه مر مع أصحابه على أناس من التتار الذين غزوا بلاد الشام وكانوا سكارى، فأراد من كان مع الإمام التغيير عليهم فنهاهم الإمام؛ لأن أمامه مفسدتان: مفسدة شرب الخمر، وهي منكر، غير أنها جريمة قاصرة، والمفسدة الثانية قتل المسلمين وإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم، ولهذا قال الإمام الجليل دعوهم، إنما نهى الله عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء إنما تصدهم الخمر عن قتل المسلمين وإراقة دمائهم، ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من إراقة دم مسلم بغير حق.  ولقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لعائشة:"لولا أن قومك حدثا عهد بالكفر لهدمت الكعبة وأعدتها على قواعد إبراهيم عليه السلام، ومما يؤيد فقه الموازنات بين التصرف وعدمه ما قاله الله تعالى:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" [الأنعام:108]، فسب الأصنام أمر مباح ولكن لما كان يؤدي إلى التعرض للذات العلية صار أمراً ممنوعاً.  ونحن أمة نعيش ضمن قرية كونية زالت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفي على أنفسنا أو نتوقع على ذاتنا، حيث لا بد من تبادل المنافع ورعاية المصالح ومد الجسور مع الآخرين والتفاعل الإيجابي من غير أن تذوب شخصيتنا وخصوصية حضارتنا من غير انطواء، أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وممن جاء بها.  والحضارات تتقاسم أقداراً من القيم، ولهذا لا بد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا، فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة، وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم، واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوربا كفرنسا وغيرها، ولهذا حدث التفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم من اليونان والروم وفارس.  فأمة الإسلام -وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث فيه عن شراكة إنسانية- يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد الذي يقوم على الأخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل، ولقد قال الخليفة الراشد علي –رضي الله عنه- لواليه على مصر:"الناس صنفان إما أخ لك في الإسلام وإما نظير لك في الخلق أخوك في الإنسانية يفرط منه الخطأ والزلل وتغلب عليهم العلل ويؤتي على أيديهم من العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثلما تحب أن يعطيك الله من العفو والصفح فإنك فوقهم ووالي الأمر فوقك والله فوق من ولاَّك".  إذاً فهذه قاعدة التفاعل الحضاري نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين إنما نلتزم العدل، كما قال تعالى:"وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم الله به لعلكم تذكرون" [الأنعام:152]، وقال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة:8]، وقال تعالى:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8].  ونحن نحتاج إلى معرفة الخلاف، فالله وحَّد الأمة على مصدر الكتاب الذي هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد، ويقوم توحيد الأمة واجتماع كلمتها على ما صح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى وحدة القبلة وعلى وحدة المصير والجزاء المشترك، ولقد كان من رحمة الله أن يجري الخلاف في الأمة في فروع الشريعة، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ونزل على سبعة أحرف، تيسيراً على الناس ومراعاة للهجاتهم واختلاف ألسنتهم واشتمل على العام والخاص، وعلى المطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والمبهم والمبين، والناسخ والمنسوخ، وفيه الحقيقة والمجاز على أن القرآن لم تنـزل آياته كلها محكمة بل فيها المحكم والمتشابه، قال تعالى:"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" [آل عمران:7].  فالمتشابهات هي التي تحتمل أكثر من وجه في التفسير، وهذا يعني أن الوحدة التي ندعو أمتنا إليها هي وحدة في الأصول وحدة في المقاصد، وحدة في الكليات، وحدة في المصالح، وإن وقع اختلاف في الفروع فهذا لا ينبغي أن يؤدي إلى الهجر والقطيعة أو تدابر أو تشاحن إنما ينبغي أن يؤدي إلى الرحمة.  فلا ريب أن في الاختلاف في الفروع سعة ورحمة، وقد قال بهذا الصدد أحد الفقهاء السبعة وهو القاسم بن محمد: ما يسرني أن يتفق أصحاب رسول الله لأنهم لو اتفقوا صار في هذا ضيق وحرج وفي اختلافهم يسر وسعة ورحمة.  والإمام محمد بن إدريس الشافعي تلقى علومه عن الإمام مالك بن أنس وقد اختلف التلميذ مع أستاذه، ولكن الشافعي يحمل الود والإجلال والاحترام والتقدير للإمام مالك ويقول: ما تحت أديم السماء أعلم من الإمام مالك ولا أصح بعد القرآن الكريم من كتاب الموطأ، ويقول: إذا ذكر العلماء فالإمام مالك النجم بينهم، ويقول: مالك حجة الله على خلقه، وكان الإمام مالك يرعى تلميذه الشافعي ويقول له: يا شافعي أرى أن الله قد ألقى عليك نور العلم فلا تطفئه بظلمة المعاصي، ولما رحل الإمام الشافعي إلى بغداد تتلمذ على يده الإمام أحمد بن حنبل وقد جرى خلاف بين هذين الإمامين الجليلين في مسائل عدة، ولكن انظروا إلى أدب الخلاف الذي نحتاج إليه بين أهل العلم، قال الإمام أحمد لولده عبدالله: منذ ثلاثين عاماً وأنا أدعو للإمام الشافعي فقال الابن لأبيه: لقد سمعتك تدعو للشافعي كثيراً فمن هو هذا الشافعي؟ فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، وبالمقابل فإن الإمام الشافعي لما رحل إلى مصر قال: ما تركت في بغداد أعلم ولا أروع ولا أهدى من أحمد بن حنبل: ثم قال:
قـالوا يـزورك أحمـد وتزروه *** قلت المكارم لا تفارق منـزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله *** فالفـضل فـي الحـالين لـه
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.  (*) أستاذ الدراسات العليا وعضو المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة