آخر المواضيع

mardi 26 novembre 2013

العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام 2

اختلاف طبيعة الدين وطبيعة الفلسفة
لقد عرضنا فيما سبق كيف أدى اختلاط الفلسفة بالدين إلى تشويه روح الدين، كما بينا أن محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة خاطئة، تؤدي إلى أضرار بالغة الخطورة في النهاية؛ ذلك أن طبيعة الدين تختلف عن طبيعة الفلسفة من جهتين مهمتين:
الأولى: أن الدين أساسه الوحي، بينما نجد أن أساس الفلسفة هو الآراء والأفكار، أو العقل النسبي، والوحي والعقل النسبي (العقل البشري، عقل محمد وعلي وأبي بكر) قد يتفقان وقد لا يتفقان، قد يتعارضان وقد لا يتعارضان؛ فإن عقل الإنسان قد يستطيع إدراك معقولية جميع جوانب الإسلام ومبادئه، وقد لا يدرك؛ وعلى هذا الأساس فعندما نحاول التوفيق لا بد من إرجاع أحد الطرفين للآخر.
فمن هنا يجب أن نعتبر أحد الطرفين معيارًا، فإذا جعلنا الدين معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الفلسفة للدين، ومعنى ذلك أيضًا أننا جعلنا الفلسفة دينًا، وإذا جعلنا الفلسفة معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الدين للفلسفة؛ أي أننا جعلنا الدين فلسفة، وإذا جعلنا الطرفين معًا معيارين متقابلين، فمعنى ذلك أننا رفعنا مستوى العقل إلى مستوى الوحي، وهذا لا يجوز؛ لأن مستوى الوحي فوق مستوى العقل البشري.
الثانية: أن الدين لا يقبل التطور من حيث المبادئ العامة، فلا نستطيع أن نضيف إليه عقيدة جديدة أو نظرية جديدة، ولا نستطيع أن نحذف منه شيئًا، وإلا يخرج الدين عن طبيعته الأصلية بمرور الزمان.
أما الفلسفة بخلافه؛ لأن مجالها واسع، ويمكن أن يتطور، ويمكن أن نضيف إليها النظريات الجديدة، كما وقع بالفعل في مختلف الفلسفات، وكذلك يمكن أن نحذف منها شيئًا.
فإذا نحن وفقنا بين الدين وفلسفة عصر معين، فإننا لا بد من أن نغير مفهوم الدين في كل عصر وفقًا لتطور الفكر الفلسفي، وبذلك نكون قد جعلنا الدين تابعًا ذنيمًا للفلسفة.
بقي شيء آخر هام لا بد من إيضاحه، وهو أن هذه الفلسفة الإسلامية المتداولة الآن إذا كانت ليست فلسفة إسلامية حقًّا، وإذا كانت لا تعبر عن الفلسفة الإسلامية - فما هي الفلسفة الإسلامية؟ وكيف ندرسها ونستخرجها كاملة إلى حيز الوجود؟
وللإجابة عن السؤال الأوَّل نَقُولُ: إنَّ الفلسفة الإسلاميَّة هي الفكر الإسلامي الذي يُعالَجُ به جميع القضايا الفلسفية، أو هي الرأي الإسلامي في جميع المجالات الفلسفية، التي تشمل كل القضايا الإنسانيَّة التي لا يُمكن معالجتها عن طريق العلوم التجريبية، أو التي لا تخضع وتدخل في نطاق المعمل العلمي؛ إذًا فهي تشمل دراسة الأخلاق والعقائد والعبادات، والسياسة والاقتصاد، والدراسات النفسية والروحية والعقلية، وهنا قد يقول القائل: إن هذه القضايا قد درسها رجال الإسلام أيضًا من قبلنا؛ فالفقهاء درسوا العبادات والاقتصاد والسياسة، والمتكلمون درسوا العقائد، والصوفية درسوا الأخلاق، والفلاسفة المسلمون درسوها من الوجهة الفلسفية.
فماذا يكون موقفنا من هذه الدراسات؟ ومن أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وكيف يكون منهجنا في هذه الدراسات؟ هذه الأسئلة الثلاثة مجتمعة تحدد جوانب الإجابة عن السؤال الثاني الذي سألناه من قبل، وهو كيف ندرس هذه الفلسفة ونستخرجها إلى حيز الوجود كفلسفة متكاملة متناسقة، تمثل حقًّا الفلسفة الإسلامية الحقيقية؟ إن منهجنا لدراسة الفلسفة من جديد يتلخص في النقط التالية:
أوَّلاً: نبدأ من الإسلام، فنجعل أرضيَّة دراستنا هي الإسلام (النصوص الإسلامية)، فكل دارس يأخذ قضية معيَّنة من القضايا السابقة أو جزءًا منها كموضوع الدراسة، ويعالجها من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة الفكر الإسلامي بادئًا من النصوص الإسلامية (القرآن والسنة).
ثانيًا: أن نحدِّد موقِفَنَا من دراسات السابقين، باتِّخاذها وسيلة من وسائل الفهم؛ لنستفيد من مَجهود الفهم، ولكن لا نأخذ كل دراساتهم مأخذ القبول، ولا نتخذها كبداية ولا كنهاية؛ لا نأخذها كبداية نبدأ بها، ولا كنهاية ننتهي إليها؛ وإنَّما نكون واسطةً بيْن البداية والنهاية.
والخطورة كل الخطورة أن نتخذ هذه الدراسات كبداية ونهاية، وإلا نكون قد أدخلنا أنفسنا في متاهات قد لا نستطيع أن نخرج منها، أو نكون قد أدخلنا أنفسنا في معمعة من الدراسات، ندور فيها كحلقة مفرغة لا ندري أين طرفاها.
وعلى كل؛ سواء استطعنا أن نخرج منها أو لم نستطع، فإننا بذلك لا نستطيع أن نقدم شيئًا سوى أن نقدم رأيًا على رأي، أو التوفيق بين الرأيين، أو إبطال البعض وإبقاء البعض الآخر.
ولكننا بذلك لا نكون قد خدمنا الفلسفة الإسلامية، وإنما نكون قد خدمنا فلسفة هؤلاء الرجال، ونحن لا نريد الآن أن نخدم الرجال؛ وإنما نريد أن نخدم الإسلام؛ ولهذا قلت لا بد أن يكون الإسلام هو البداية وهو النهاية في نفس الوقت.
ثالثًا: أن يكون هدفنا هو معالجة المشاكل الفلسفية المعاصرة المتصلة بحياتنا الراهنة، المشاكل الإنسانية الفلسفية التي يعاني منها الناس جميعًا، نعالج هذه المشاكل من زاوية الفلسفة الإسلامية الصافية، لا من زاويتنا، ولا من زاوية التيَّارات الفكرية الفلسفية المعاصرة، ولا من زاوية آراء السابقين.
وبذلك نستطيعُ أن نقدِّمَ الفلسفة الإسلامية الصافية، ونستطيع أن نعالج مشاكلنا عن طريق فلسفتنا الإسلامية، وبذلك نَجعل الفلسفة الإسلامية تساهم في حل مشكلاتنا خاصة، ومشكلات الإنسانية الفلسفية عامة.
(3) الطرق الصوفية
وكانتِ الطرق الصوفيَّة أيضًا من جملة العوامل التي أدت إلى تشويه المفاهيم الإسلامية، ويجب أن يعرف أوَّلاً أنَّ هناك فرقًا شاسعًا بين مفهوم التصوُّف في الإسلام وبين تصوُّف المتأخِّرين الذي يتمثَّل في الطُّرُق الصوفيَّة، فإنَّ هذه الطُّرق قدِ انْحَرَفَتْ عن أصْلِها الإسلامي، وإذا أشَرْنا إلى تاريخِها بالإيجاز، وبيَّنَّا كيف زاد انْحِرافُها كلَّما قطعت مرحلة من مراحل حياتها - عند ذلك فسوف يتَّضِحُ ما قُلْنَا.
وقبلَ هذا أوَدُّ أن أُبَيِّنَ مصدر كلمة صوفي؛ قيل إنَّها منسوبة إلى صوفة؛ اسم رجل كان يعبد الله في البيت الحرام، وقيل إنَّها منسوبة إلى الصوف؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحب لبسه، لأنَّه علامة الخشونة والخضوع، وقيل إنها منسوبة إلى الصفاء، وقيل إنها منسوبة إلى سوفيا، وهي كلمة يونانية ومعناها حكمة؛ غير أن أنسب الأقوال هو أنها منسوبة إلى الصوف، وتؤيدها الصيغة الصرفية.
وعلى أي حال فإنَّ التصوُّف في عهد الرسول كان عماده الزهد والتعبد والخشوع، وغايته نيل رضوان الله، والخوف من عقابه وعذابه، وإن لم يكن هذا الاسم يطلق على مَن كانت سيرتهم هذه في ذلك العهد، وإنما كان يسمى من عرف بهذه السيرة بالتقي أو العابد.
 ثم تطور هذا المفهوم إلى أن صار هدفه هو التعبُّد لله حبًّا له، لا رغبة في رضاه، ولا طمعًا في ثوابه، ولا خوفًا من عقابه.
وفي المرحلة الثانية: من تطوُّره تدخَّلتْ فيه المبادئ الأجنبيَّة؛ دينيَّة كانت أم فلسفية، أو ممزوجة بهما جميعًا.
وفي المرحلة الثالثة: حصل تطوُّر مرَّة ثانيةً في غايته؛ إذ إنَّها أصبحتْ تَنْحَصِرُ في مُطالعة الذَّات الإلهيَّة، ومُشاهدة الجمال الإلهي الأزلي.
وفي المرحلة الرابعة: وصل إلى قمة الانحراف؛ فاتصل بالظريات الغريبة على الإسلام، المتباينة مع مبادئه؛ مثل نظرية الفناء في الله، ووحدة الوجود، والاتحاد أو الحلول، وغيرها من المبادئ التي انتقلتْ إلى العالم الإسلامي من الشَّرق والغرب إبان اتِّصاله بِهما.
وفي المرحلة الأخيرة[10] ظهرت هذه النظريات وتلك المبادئ في ثياب التصوف عارية مكشوفة، وأصبح التصوف اتجاه طائفة أو جماعة من الناس، تؤلف فيه الكتب الممزوجة بالمبادئ الإسلامية والفلسفية والديانات الأخرى معًا.
ومِن ثَمَّ بدأ يَختلِفُ المتصوِّفُون فيما بَيْنَهُم، ويَذْهَبُونَ مذاهِبَ شتَّى وطرائِقَ قِدَدًا، حتَّى أصبحتْ هُناكَ عشراتُ الأنواع من الطريقة الواحدة، لها طريقةٌ معيَّنة في التسبيح والتهليل مع تزمير المزامير وضرب الدف، وكل واحدة تدَّعي لنفْسِها أنَّها على حق والأخرى على باطل، كما يدعي بعضهم بأنَّه يتَّصل بالمغيبات، ويظهر الخوارق للعادة، وأنه يشفي المريض بنفخة في وجهه أو لمسة بيده، ويقولون بعض الكلمات يظهرون بها أنفسهم أنَّهم أولياء؛ مثل قولهم ما في الجبة إلا الله، أو أنا الحق، وغيرها من الكلمات، التي ما كان الرسول يقولها ولا صحابته الكرام من بعده مع علو منزلتهم وسمو مكانتهم عند الله.
وقد لا يرضى عن هذه العبارات أتباعُهم؛ لأنهم يحاولون دائمًا الدفاع عما صدر منهم من كلمات لا يرضى عنه الإسلام غير أن ما نعلمه من صورة الولاية وسيلة لكسب المعاش وأثر هذه الكلمات في إظهار أنفسهم بمظهر الولاية في نفوس الناس.
هذه الأمور وغيرها تدفعنا إلى عدم الثقة بهم، حقًّا نحن لا ننكر وجود الصالحين منهم، ولكنني عندما أتكلم إنما أتكلم عن الظاهرة بوجه عام.
ومن مظاهر هذه الطرق الصوفيَّة أنَّها تدعو إلى تَرْكِ الدُّنيا والعَمَلِ من أجْلِها، وعدم الاعْتِناء بِشُؤُونِ الحياة، أو بعبارةٍ أوْضَحَ أنَّها تدعو إلى الكَسَلِ والشَّعْوَذَة، والدَّعة والتكاسل، والاهتمام بالروح ومطالبها وحدها، وهذا الاتجاه أقرب إلى اتجاه المسيحية منه إلى الإسلام؛ ذلك أن المسيحية تتَّجه دائمًا إلى الاعتناء بالروح، أما الإسلام فإنه كما يعنى بشؤون الروح يعتني بمثله بأمور الدنيا، وقد بينا ذلك في الفصل الأول بالتفصيل.
أضف إلى هذا أن تعدُّد هذه الطرق تشجع أعداء الإسلام على تشويهه بالوسائل المختلفة، حينًا بفتح طريقةٍ ظاهرُها إسلامي وباطنها حرب عليه وعلى مبادئه، وحينًا آخر بالهجوم عليه بأنه دين تأخر وخرافة؛ حتى إن كثيرًا من المسلمين الذين يجهلون حقيقة الإسلام أساؤوا الظن بالإسلام؛ لأنَّهم حين رأَوْا هذه المظاهر الشَّعْوَذِيَّة من أهل الطرق - ظنُّوا أنَّ ذلك انعكاسٌ لِرُوح الإسلام، وأن الإسلام يأمر بذلك ويدعو إليه.
بقِيَ أن نُبَيِّنَ بعد هذا أنَّ هذه الطُّرُقَ بِدْعَةٌ مُخالِفةٌ لِسُنَّة العبادة التي أكملها الإسلام شكلاً وموضوعًا، فإنَّ أيَّ تَغييرٍ فيها بالزِّيادة أو النقص يُعْتَبَرُ بِدْعَةً، وإذا أوْرَدْنا تعريفَ البِدْعة لدى العُلماء فَسَوْفَ نَجِدُ أنَّه مُنْطَبق عليها؛ فقد عرفها بعض العلماء بأنَّها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، أو يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله، وعرفها الآخرون بأنها كل ما وجد وحدث بعد الرسول، وإن كنتُ أرجِّح تعريف الأول؛ لسبب آخر أذكره بعد قليل، فإن كلا التعريفين على أية حال ينطويان عليه.
 وقد يستدل هؤلاء بصحة هذه الطرق بدعوى أنها من البدعة الحسنة، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سن في الإسلام سُنَّة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا))[11].
ولكن ليس معنى هذا الحديث أنه يدعو إلى الاختراع في الدين؛ فإن جانب العبادة والعقيدة لا يقبل الاختراع بأي حال من الأحوال، بدليل أن الرسول أنكر على الجماعة الذين عزم بعضهم بأنه يصوم الدهر، والآخر أنه يقيم الليل كله، والثالث أنه لا ينكح النساء أبدًا، وما ذلك إلا لأنهم تجاوزوا حدود العبادة وزادوا عليها، وكذلك منع الله الزيادة على العبادة المقررة[12]، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[13] [المائدة: 77]، والغلو هو الزيادة والتشدد في أمر الدين.
وأما مجال الحديث ((من سن سنة حسنة... إلخ)) ففي جانب التشريع وأمور الدنيا، بدليل أن الرسول أباح إعمال العقل في هذا الميدان، فهو حين أرسل معاذ بن جبل أباح له إعمال عقله فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
يدل على هذا أيضًا أقواله في تأبير النخل، وحفر الخنادق، واختيار أحسن موقع في حرب بدر، مثل هذه الأمور من السنة الحسنة، ومنها أيضًا اختراع عمر الديوان، واختراع الصحابة تدوين الأحاديث.
وعلى هذا فإن معنى السنة الحسنة هو الإرشاد والهداية، وبيان طريق الخير للناس في شؤون الدنيا، والبدعة السيئة اختراع طرق للشر والفساد.
هذا وقد جاء الخطأ حينًا من الخلط بين البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية؛ فالبدعة الحقيقية ما خالف الدين شكلاً وموضوعًا، والبدعة الإضافية ما خالف الدين شكلاً لا موضوعًا.
وقد غاب على كثير من الناس هذه الحقيقة، فظنوا أن البدعة الإضافية مشروعة، لها سند من الدين؛ لوجود أصل لها ثابت في الدين من حيث الموضوع، فليس فيها تغيير إلا من حيث الشكل، فمثلاً نجد أن أصل الصلاة على النبي ثابت بالنص، ولكن تركيبها مع الأذان غير ثابت، فهذا التركيب بدعة إضافية؛ لأنه ثابت موضوعًا لا شكلاً.
ومثال آخر وهو أنه إذا كان التسبيح ثابتًا بالنص، فليس لأحد أن يزيد في عدد ركعات الصلاة المفروضة، بدعوى أنه بذلك يكثر التسبيح وذكر الله.
روي عن ابن عباس  - رضي الله عنه - أنه مر يومًا بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى حلقات من الناس وفي أيديهم حصى، فيقول أحدهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ويقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فقال: "ما تصنعون؟!"، فقالوا: "حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح"، فقال: "ويح أمة محمد! ما أسرع هلكتكم... أومفتتحو باب ضلالة"، فقالوا: "ما أردنا إلا الخير"، فقال: "كم من مريد للخير لم يصبه"، وقال أيضًا: "اتبعوا، ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
فهذا دليل على أنه لا يجوز الابتكار في شؤون العبادة، وكأن ابن عباس قال ذلك استنادًا إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
هذا شأن العبادات؛ لا اجتهاد فيها ولا استنباط؛ لأن الله أكملها وحددها شكلاً وموضوعًا على الهيئة التي أراد بها عبادته، فلا يحق لنا أن نتدخل فيها بتغيير شيء من ذلك كمًّا أو كيفًا.
ثم إن العبادة لا تتأثر بتطور الزمان والمكان، بخلاف ذلك جانب التنظيم والتشريع من الإسلام، فإن الإسلام أكمل هذا الجانب من حيث وضع الأسس العامة والنظريات الرئيسية، أما تحديده من حيث جميع الجزئيات والشكليات، فذلك متروك للناس في كثير من الأحوال، ينظمون حياتهم بتنظيمات وشكليات تخضع لهذه الأسس العامة؛ لأنَّ هذا الجانب تتأثر بتطور الزمان وتطور حياة الناس، فلا بد أن تكون فيها شيء من المرونة، ولا يضل الناس مهما تغيرت الحياة وتطورت ما داموا سائرين على هدي هذه الأسس؛ لأنها طريق واضح أمام المسلمين لكل زمان ومكان، وسوف أتناول هذه النقطة بشيء من التفصيل في موضعها المناسب في الفصل الآتي إن شاء الله.
بعد هذا بقي أن نحدد موقفنا من هذا العامل.
موقفنا من هذه الطرق 
ثبت في هذا البحث مدى خروج الطرق الصوفية عن المنهج الإسلامي، سواء كان من حيث اتجاهها العام في الحياة، أو من حيث مزج مفاهيمها بالمبادئ الفلسفية والديانات الأخرى، أو من حيث إن مراسمها المختلفة التي اخترعوها للتعبد - بدعة خارجة عن حدود التعبد في الإسلام.
وإذا كان الأمر كذلك فعلينا إذًا أن نحاربها ونلغيها، ونعلن براءة الإسلام منها، وأنها تشوه المفاهيم الإسلامية في الخارج والداخل، ثم نشرح هذه الحقائق في جميع الشعوب الإسلامية بكل الوسائل التي يمكن اتخاذها.
يقول بعضهم: إن علينا إصلاحها، فإنَّ الأخطاء تصلح بالتوجيه والإصلاح، لا بالإلغاء والإعدام.
حقًّا هذا الاعتراض له وجاهة لو كنَّا بحاجة إليها، ولا يمكن لنا الاستغناء عنها؛ لكنَّا لسنا بحاجة إليها؛ لأن الإسلام منهاج واحد، وطريقة واحدة، فإن التمسك به من جميع جوانبه، والسير على طريقته ومنهاجه هو تطبيق الإسلام على الوَجْهِ الصحيح، وهو الذي يجمعنا جميعًا في صف واحد، ويوجهنا إلى جهة واحدة؛ أمَّا إنشاء الطرق المختلفة باتجاهات ومراسيم متنوعة، فما هي إلا تفريق الأمة، وإفشاء الخلاف بين علمائها، وانحلال قوى الوحدة في نفوسها، وفتح الثغرات لدخول النفوذ الأجنبي، وظهور الآراء المنحرفة في صفوف المسلمين.
وأخيرًا ينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ نقدي للطرق الصوفية، لا للتصوف أو الحياة الروحية في نطاق الإسلام، قد يساء بي الظن أنِّي بهذا الموقف من الطرق قد ظلمتها، غير أنني لو ذكرت لكم رأي الإمام القشيري فيها - وهو من أعلام التصوف - في تصوف هؤلاء؛ لظهر أن حكمي عليهم أخف من حكمه.
يقول: "حصلت فترة في هذه الطريقة؛ لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيوفهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعَدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الفضلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاع بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا أنطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا؛ بل صرفوا"[14].
وإذا كان الإمام القشيري يهاجمهم بما هم عليه في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، فما بالك بما آلت إليه أحوالهم بعدَهُ حتَّى يومِنا هذا.
وليس ما قلتُه هنا مجرد ملاحظات لبعض الطرق؛ بل هو عن دراسة واعية، وملاحظات مباشرة للطرق في مختلف البلاد.
وليس ما قلتُه هنا أيضًا هو كلُّ نتيجةِ دراستِي وملاحظاتي؛ بل كل ذلك سيأتي موضحًا ومفصلاً في رسالة خاصة أعدها بعنوان "نشأة الطرق الصوفية، وعلاقتها بالإسلام"، وما ههنا إلا مجرد لمحات وإشارات مناسبة لحجم الكتاب، ذكرتها كعامل مشوه لروح الاسلام، وشعاري الأخير هنا هو أن الإسلام طريق واحد، لا يحتاج إلى الطرق.
(4) فوضى التـأويل
أشرت في بعض المناسبات - فيما سبق - إلى دور فوضى التأويل في تشويه روح الإسلام؛ ولكن هذه الإشارات لما كانت غير كافية للإحاطة بدورها في هذا الميدان، احتجت إلى أن أخصه بعنوان؛ ليكون دورها واضحًا كل الوضوح في نظر القراء.
وقبل توضيح ذلك أريد بيان الحقيقتين الآتيتين؛ لأنهما بمنزلة ميزان نزن به مدى خطر هذا العامل في هذا المجال.
أما الحقيقة الأولى: فهي أن الإسلام منهاج جاء ليتبعه الناس ويسيروا عليه، بدلاً من أن يسير وفقًا لهوى الناس ويسير تبعًا لآرائهم المختلفة؛ بل هو ميزان لجميع القيم، جاء لتوزن به الحقائق والقيم، لا ليوزن هو بما يضعه الناس من القيم والمناهج.
وأما الحقيقة الثانية: فهي أن الإسلام يهدف دائمًا إلى تحقيق المطالب الأساسية للفرد في حدود القيم والمبادئ التي جاء بها، دون إضرار بمصلحة الغير؛ فلا يسمح للفرد بتحقيق مطالبه بأية طريقة كانت، ولو على حساب الآخرين.
غيْرَ أنَّ التَّأويل حين أصبح فوضى، بدون قيد ولا شرط، وحين أصبح وسيلة لتبرير الاتجاهات الشخصية، بإيجاد سندٍ لها من الدين بأية طريقة كانت، حين غيَّر المؤولون المنحرفون الحقيقتين السابقتين، فعكسوا القضية الأولى بقصد أو بغير قصد؛ بجعل آرائهم ميزانًا، وأهوائهم واتجهاتهم منهاجًا، ثم حاولوا إخضاع الآراء الإسلامية لآرائهم، ومنهاجه لمناهجهم؛ وبذلك جعلوا الإسلام عرضة لأهوائهم، وأستارًا يخفون وراءها سوء نياتهم.
وقد حذرنا الله من اتباع هؤلاء؛ لسوء مصيرهم في النهاية، فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وغير ذلك من الآيات يندد بهذا الاتجاه.
إنَّ الفكرة يجب أن تنبع من قلب الإسلام، لا أن تعتنق من الخارج أو من هوى الناس، ثم تفرض على الإسلام فرضًا.
وكانتِ النتيجة الحتمية لهذا الاتجاه الخاطئ أنْ أصبحت هناك مناهج مختلفة، واتجاهات متعددة بين صفوف الأمة الإسلامية، ومن ثَمَّ تعدَّدت الآراء، وتشتت الأمة، وأصبح الإسلام عرضة لآراء وأفكار متناقضة، ونظريات متهافتة.
وفي ذلك تشويه وتشويش؛ تشويه لروح الاسلام من جهة، وتشويش على فكر الأمة من جهة أخرى.
وكذلك تغافلوا عن الحقيقة الثانية كما فعله البعض، أو جهلوها كما فعله البعض الآخر.
إن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع مصلحة الناس كأفراد وجماعات، ولا يقف أمام مطالبهم ما داموا يطلبونها في حدود القيم الأخلاقية والدينية، وما داموا يطلبونها بطريقة لا تضر الآخرين إن عاجلاً أو آجلاً.
غير أن بعض الناس يرسم لنفسه طريقًا للوصول إلى هدفه، فلا يستشير الإسلام قبل رسم طريقه: أهو موافق للمبادئ الإسلامية أم مخالف لها؟ ثم يجد الإسلام يعارضه، ففي هذه الحالة، إما أن يحاول التوفيق ولو بطريقة تعسفية، فيُحمِّل الآيات ما لا تطيق، وبذلك ينفذ طريقته غير الشرعية باسم الشريعة، ولو أضرت بمصلحة الأفراد والجماعات.
وإما أن يقول: إن الإسلام يعارض مصلحة الناس، وفي كلتا الحالتين يصبح الإسلام مظنة سوء، حقًّا إن الإسلام يقف أحيانًا في طريق الناس، ويعارض بعض الوسائل التي يتخذونها لقضاء مآربهم؛ لأن ما فيها من الأضرار أكثر مما فيها من المصلحة التي يلاحظونها، أو لأن ما يترتب عليها من الأضرار سوف يحدث في المستقبل، وهم لا يدركونها لأنهم لا ينظرون إلا إلى القريب العاجل، وأحيانًا يقف الإسلام سدًّا أمام مصلحة الفرد من أجل مصلحة المجتمع، إذا أراد تحقيق مصلحة على حساب الناس، أو بطريقة غير أخلاقية، فعدم ملاحظة هذه الأمور عمدًا أو بغير عمد من الأسباب الرئيسية في فوضى التأويل، التي رأينا بعض صور منه لدى إخوان الصفا وبعض فلاسفة المسلمين؛ أمثال الفارابي وابن سينا.
ويطول بنا المقام لو ذكرنا أمثلة لمثل هذا التأويل عند مختلف الأحزاب السياسية، والطوائف وأهل الطرق الصوفية؛ ولهذا أكتفي بما سبق، غير أنني أحاول هنا تلخيص دوافع هذا التأويل التعسفي؛ حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، فأهم هذه الدوافع أو الأسباب هي ما يلي:
أولاً: محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة، كما رأينا لدى السابقين، أو بين الإسلام والمذاهب السياسية أو الاقتصادية كما نراه لدى المحدثين، وقد بينَّا خطأ هذا الاتجاه بوجه عام.
ثانيًا: محاولة إيجاد سند أو دليل من الإسلام للآراء الشخصية أو اتجاهاتها؛ حتى تجد قبولاً لدى الجمهور.
ثالثًا: تبرير الاتجاهات المنحرفة، وقد قال تعالى في حقهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
وعلى كل حال فإنها جميعًا قد أدت إلى نتائج سيئة؛ إذ إنها شوهت روح الإسلام في نفوس المسلمين وغير المسلمين على السواء؛ إذ إن المبادئ الإسلامية أصبحت بذلك متناقضة متضاربة، وصدق رسول الله حين بيَّن لنا أن مثل هذه التأويلات تؤدي إلى مثل هذه النتيجة فقال: ((إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به))، قال ذلك بعد أن نزل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
من أجل هذا كله يجب أن نحدد موقفنا من هذا التأويل، وذلك:
أولاً: بإعلان حرب شعواء على فوضى التأويل.
ثانيًا: إعادة النظر إلى النصوص ودراستها، بعيدًا عن الخلافات المذهبية والحزبية، متخذين الهدف الأساسي للوصول إلى الفهم الصحيح.
ثالثًا: وضع قانون للتأويل وحدود نسير داخل قيوده.

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة