تطوير الفكر الاسلامي

آخر المواضيع

mardi 26 novembre 2013

15:21

العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام 2

اختلاف طبيعة الدين وطبيعة الفلسفة
لقد عرضنا فيما سبق كيف أدى اختلاط الفلسفة بالدين إلى تشويه روح الدين، كما بينا أن محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة خاطئة، تؤدي إلى أضرار بالغة الخطورة في النهاية؛ ذلك أن طبيعة الدين تختلف عن طبيعة الفلسفة من جهتين مهمتين:
الأولى: أن الدين أساسه الوحي، بينما نجد أن أساس الفلسفة هو الآراء والأفكار، أو العقل النسبي، والوحي والعقل النسبي (العقل البشري، عقل محمد وعلي وأبي بكر) قد يتفقان وقد لا يتفقان، قد يتعارضان وقد لا يتعارضان؛ فإن عقل الإنسان قد يستطيع إدراك معقولية جميع جوانب الإسلام ومبادئه، وقد لا يدرك؛ وعلى هذا الأساس فعندما نحاول التوفيق لا بد من إرجاع أحد الطرفين للآخر.
فمن هنا يجب أن نعتبر أحد الطرفين معيارًا، فإذا جعلنا الدين معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الفلسفة للدين، ومعنى ذلك أيضًا أننا جعلنا الفلسفة دينًا، وإذا جعلنا الفلسفة معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الدين للفلسفة؛ أي أننا جعلنا الدين فلسفة، وإذا جعلنا الطرفين معًا معيارين متقابلين، فمعنى ذلك أننا رفعنا مستوى العقل إلى مستوى الوحي، وهذا لا يجوز؛ لأن مستوى الوحي فوق مستوى العقل البشري.
الثانية: أن الدين لا يقبل التطور من حيث المبادئ العامة، فلا نستطيع أن نضيف إليه عقيدة جديدة أو نظرية جديدة، ولا نستطيع أن نحذف منه شيئًا، وإلا يخرج الدين عن طبيعته الأصلية بمرور الزمان.
أما الفلسفة بخلافه؛ لأن مجالها واسع، ويمكن أن يتطور، ويمكن أن نضيف إليها النظريات الجديدة، كما وقع بالفعل في مختلف الفلسفات، وكذلك يمكن أن نحذف منها شيئًا.
فإذا نحن وفقنا بين الدين وفلسفة عصر معين، فإننا لا بد من أن نغير مفهوم الدين في كل عصر وفقًا لتطور الفكر الفلسفي، وبذلك نكون قد جعلنا الدين تابعًا ذنيمًا للفلسفة.
بقي شيء آخر هام لا بد من إيضاحه، وهو أن هذه الفلسفة الإسلامية المتداولة الآن إذا كانت ليست فلسفة إسلامية حقًّا، وإذا كانت لا تعبر عن الفلسفة الإسلامية - فما هي الفلسفة الإسلامية؟ وكيف ندرسها ونستخرجها كاملة إلى حيز الوجود؟
وللإجابة عن السؤال الأوَّل نَقُولُ: إنَّ الفلسفة الإسلاميَّة هي الفكر الإسلامي الذي يُعالَجُ به جميع القضايا الفلسفية، أو هي الرأي الإسلامي في جميع المجالات الفلسفية، التي تشمل كل القضايا الإنسانيَّة التي لا يُمكن معالجتها عن طريق العلوم التجريبية، أو التي لا تخضع وتدخل في نطاق المعمل العلمي؛ إذًا فهي تشمل دراسة الأخلاق والعقائد والعبادات، والسياسة والاقتصاد، والدراسات النفسية والروحية والعقلية، وهنا قد يقول القائل: إن هذه القضايا قد درسها رجال الإسلام أيضًا من قبلنا؛ فالفقهاء درسوا العبادات والاقتصاد والسياسة، والمتكلمون درسوا العقائد، والصوفية درسوا الأخلاق، والفلاسفة المسلمون درسوها من الوجهة الفلسفية.
فماذا يكون موقفنا من هذه الدراسات؟ ومن أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وكيف يكون منهجنا في هذه الدراسات؟ هذه الأسئلة الثلاثة مجتمعة تحدد جوانب الإجابة عن السؤال الثاني الذي سألناه من قبل، وهو كيف ندرس هذه الفلسفة ونستخرجها إلى حيز الوجود كفلسفة متكاملة متناسقة، تمثل حقًّا الفلسفة الإسلامية الحقيقية؟ إن منهجنا لدراسة الفلسفة من جديد يتلخص في النقط التالية:
أوَّلاً: نبدأ من الإسلام، فنجعل أرضيَّة دراستنا هي الإسلام (النصوص الإسلامية)، فكل دارس يأخذ قضية معيَّنة من القضايا السابقة أو جزءًا منها كموضوع الدراسة، ويعالجها من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة الفكر الإسلامي بادئًا من النصوص الإسلامية (القرآن والسنة).
ثانيًا: أن نحدِّد موقِفَنَا من دراسات السابقين، باتِّخاذها وسيلة من وسائل الفهم؛ لنستفيد من مَجهود الفهم، ولكن لا نأخذ كل دراساتهم مأخذ القبول، ولا نتخذها كبداية ولا كنهاية؛ لا نأخذها كبداية نبدأ بها، ولا كنهاية ننتهي إليها؛ وإنَّما نكون واسطةً بيْن البداية والنهاية.
والخطورة كل الخطورة أن نتخذ هذه الدراسات كبداية ونهاية، وإلا نكون قد أدخلنا أنفسنا في متاهات قد لا نستطيع أن نخرج منها، أو نكون قد أدخلنا أنفسنا في معمعة من الدراسات، ندور فيها كحلقة مفرغة لا ندري أين طرفاها.
وعلى كل؛ سواء استطعنا أن نخرج منها أو لم نستطع، فإننا بذلك لا نستطيع أن نقدم شيئًا سوى أن نقدم رأيًا على رأي، أو التوفيق بين الرأيين، أو إبطال البعض وإبقاء البعض الآخر.
ولكننا بذلك لا نكون قد خدمنا الفلسفة الإسلامية، وإنما نكون قد خدمنا فلسفة هؤلاء الرجال، ونحن لا نريد الآن أن نخدم الرجال؛ وإنما نريد أن نخدم الإسلام؛ ولهذا قلت لا بد أن يكون الإسلام هو البداية وهو النهاية في نفس الوقت.
ثالثًا: أن يكون هدفنا هو معالجة المشاكل الفلسفية المعاصرة المتصلة بحياتنا الراهنة، المشاكل الإنسانية الفلسفية التي يعاني منها الناس جميعًا، نعالج هذه المشاكل من زاوية الفلسفة الإسلامية الصافية، لا من زاويتنا، ولا من زاوية التيَّارات الفكرية الفلسفية المعاصرة، ولا من زاوية آراء السابقين.
وبذلك نستطيعُ أن نقدِّمَ الفلسفة الإسلامية الصافية، ونستطيع أن نعالج مشاكلنا عن طريق فلسفتنا الإسلامية، وبذلك نَجعل الفلسفة الإسلامية تساهم في حل مشكلاتنا خاصة، ومشكلات الإنسانية الفلسفية عامة.
(3) الطرق الصوفية
وكانتِ الطرق الصوفيَّة أيضًا من جملة العوامل التي أدت إلى تشويه المفاهيم الإسلامية، ويجب أن يعرف أوَّلاً أنَّ هناك فرقًا شاسعًا بين مفهوم التصوُّف في الإسلام وبين تصوُّف المتأخِّرين الذي يتمثَّل في الطُّرُق الصوفيَّة، فإنَّ هذه الطُّرق قدِ انْحَرَفَتْ عن أصْلِها الإسلامي، وإذا أشَرْنا إلى تاريخِها بالإيجاز، وبيَّنَّا كيف زاد انْحِرافُها كلَّما قطعت مرحلة من مراحل حياتها - عند ذلك فسوف يتَّضِحُ ما قُلْنَا.
وقبلَ هذا أوَدُّ أن أُبَيِّنَ مصدر كلمة صوفي؛ قيل إنَّها منسوبة إلى صوفة؛ اسم رجل كان يعبد الله في البيت الحرام، وقيل إنَّها منسوبة إلى الصوف؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحب لبسه، لأنَّه علامة الخشونة والخضوع، وقيل إنها منسوبة إلى الصفاء، وقيل إنها منسوبة إلى سوفيا، وهي كلمة يونانية ومعناها حكمة؛ غير أن أنسب الأقوال هو أنها منسوبة إلى الصوف، وتؤيدها الصيغة الصرفية.
وعلى أي حال فإنَّ التصوُّف في عهد الرسول كان عماده الزهد والتعبد والخشوع، وغايته نيل رضوان الله، والخوف من عقابه وعذابه، وإن لم يكن هذا الاسم يطلق على مَن كانت سيرتهم هذه في ذلك العهد، وإنما كان يسمى من عرف بهذه السيرة بالتقي أو العابد.
 ثم تطور هذا المفهوم إلى أن صار هدفه هو التعبُّد لله حبًّا له، لا رغبة في رضاه، ولا طمعًا في ثوابه، ولا خوفًا من عقابه.
وفي المرحلة الثانية: من تطوُّره تدخَّلتْ فيه المبادئ الأجنبيَّة؛ دينيَّة كانت أم فلسفية، أو ممزوجة بهما جميعًا.
وفي المرحلة الثالثة: حصل تطوُّر مرَّة ثانيةً في غايته؛ إذ إنَّها أصبحتْ تَنْحَصِرُ في مُطالعة الذَّات الإلهيَّة، ومُشاهدة الجمال الإلهي الأزلي.
وفي المرحلة الرابعة: وصل إلى قمة الانحراف؛ فاتصل بالظريات الغريبة على الإسلام، المتباينة مع مبادئه؛ مثل نظرية الفناء في الله، ووحدة الوجود، والاتحاد أو الحلول، وغيرها من المبادئ التي انتقلتْ إلى العالم الإسلامي من الشَّرق والغرب إبان اتِّصاله بِهما.
وفي المرحلة الأخيرة[10] ظهرت هذه النظريات وتلك المبادئ في ثياب التصوف عارية مكشوفة، وأصبح التصوف اتجاه طائفة أو جماعة من الناس، تؤلف فيه الكتب الممزوجة بالمبادئ الإسلامية والفلسفية والديانات الأخرى معًا.
ومِن ثَمَّ بدأ يَختلِفُ المتصوِّفُون فيما بَيْنَهُم، ويَذْهَبُونَ مذاهِبَ شتَّى وطرائِقَ قِدَدًا، حتَّى أصبحتْ هُناكَ عشراتُ الأنواع من الطريقة الواحدة، لها طريقةٌ معيَّنة في التسبيح والتهليل مع تزمير المزامير وضرب الدف، وكل واحدة تدَّعي لنفْسِها أنَّها على حق والأخرى على باطل، كما يدعي بعضهم بأنَّه يتَّصل بالمغيبات، ويظهر الخوارق للعادة، وأنه يشفي المريض بنفخة في وجهه أو لمسة بيده، ويقولون بعض الكلمات يظهرون بها أنفسهم أنَّهم أولياء؛ مثل قولهم ما في الجبة إلا الله، أو أنا الحق، وغيرها من الكلمات، التي ما كان الرسول يقولها ولا صحابته الكرام من بعده مع علو منزلتهم وسمو مكانتهم عند الله.
وقد لا يرضى عن هذه العبارات أتباعُهم؛ لأنهم يحاولون دائمًا الدفاع عما صدر منهم من كلمات لا يرضى عنه الإسلام غير أن ما نعلمه من صورة الولاية وسيلة لكسب المعاش وأثر هذه الكلمات في إظهار أنفسهم بمظهر الولاية في نفوس الناس.
هذه الأمور وغيرها تدفعنا إلى عدم الثقة بهم، حقًّا نحن لا ننكر وجود الصالحين منهم، ولكنني عندما أتكلم إنما أتكلم عن الظاهرة بوجه عام.
ومن مظاهر هذه الطرق الصوفيَّة أنَّها تدعو إلى تَرْكِ الدُّنيا والعَمَلِ من أجْلِها، وعدم الاعْتِناء بِشُؤُونِ الحياة، أو بعبارةٍ أوْضَحَ أنَّها تدعو إلى الكَسَلِ والشَّعْوَذَة، والدَّعة والتكاسل، والاهتمام بالروح ومطالبها وحدها، وهذا الاتجاه أقرب إلى اتجاه المسيحية منه إلى الإسلام؛ ذلك أن المسيحية تتَّجه دائمًا إلى الاعتناء بالروح، أما الإسلام فإنه كما يعنى بشؤون الروح يعتني بمثله بأمور الدنيا، وقد بينا ذلك في الفصل الأول بالتفصيل.
أضف إلى هذا أن تعدُّد هذه الطرق تشجع أعداء الإسلام على تشويهه بالوسائل المختلفة، حينًا بفتح طريقةٍ ظاهرُها إسلامي وباطنها حرب عليه وعلى مبادئه، وحينًا آخر بالهجوم عليه بأنه دين تأخر وخرافة؛ حتى إن كثيرًا من المسلمين الذين يجهلون حقيقة الإسلام أساؤوا الظن بالإسلام؛ لأنَّهم حين رأَوْا هذه المظاهر الشَّعْوَذِيَّة من أهل الطرق - ظنُّوا أنَّ ذلك انعكاسٌ لِرُوح الإسلام، وأن الإسلام يأمر بذلك ويدعو إليه.
بقِيَ أن نُبَيِّنَ بعد هذا أنَّ هذه الطُّرُقَ بِدْعَةٌ مُخالِفةٌ لِسُنَّة العبادة التي أكملها الإسلام شكلاً وموضوعًا، فإنَّ أيَّ تَغييرٍ فيها بالزِّيادة أو النقص يُعْتَبَرُ بِدْعَةً، وإذا أوْرَدْنا تعريفَ البِدْعة لدى العُلماء فَسَوْفَ نَجِدُ أنَّه مُنْطَبق عليها؛ فقد عرفها بعض العلماء بأنَّها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، أو يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله، وعرفها الآخرون بأنها كل ما وجد وحدث بعد الرسول، وإن كنتُ أرجِّح تعريف الأول؛ لسبب آخر أذكره بعد قليل، فإن كلا التعريفين على أية حال ينطويان عليه.
 وقد يستدل هؤلاء بصحة هذه الطرق بدعوى أنها من البدعة الحسنة، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سن في الإسلام سُنَّة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا))[11].
ولكن ليس معنى هذا الحديث أنه يدعو إلى الاختراع في الدين؛ فإن جانب العبادة والعقيدة لا يقبل الاختراع بأي حال من الأحوال، بدليل أن الرسول أنكر على الجماعة الذين عزم بعضهم بأنه يصوم الدهر، والآخر أنه يقيم الليل كله، والثالث أنه لا ينكح النساء أبدًا، وما ذلك إلا لأنهم تجاوزوا حدود العبادة وزادوا عليها، وكذلك منع الله الزيادة على العبادة المقررة[12]، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[13] [المائدة: 77]، والغلو هو الزيادة والتشدد في أمر الدين.
وأما مجال الحديث ((من سن سنة حسنة... إلخ)) ففي جانب التشريع وأمور الدنيا، بدليل أن الرسول أباح إعمال العقل في هذا الميدان، فهو حين أرسل معاذ بن جبل أباح له إعمال عقله فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
يدل على هذا أيضًا أقواله في تأبير النخل، وحفر الخنادق، واختيار أحسن موقع في حرب بدر، مثل هذه الأمور من السنة الحسنة، ومنها أيضًا اختراع عمر الديوان، واختراع الصحابة تدوين الأحاديث.
وعلى هذا فإن معنى السنة الحسنة هو الإرشاد والهداية، وبيان طريق الخير للناس في شؤون الدنيا، والبدعة السيئة اختراع طرق للشر والفساد.
هذا وقد جاء الخطأ حينًا من الخلط بين البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية؛ فالبدعة الحقيقية ما خالف الدين شكلاً وموضوعًا، والبدعة الإضافية ما خالف الدين شكلاً لا موضوعًا.
وقد غاب على كثير من الناس هذه الحقيقة، فظنوا أن البدعة الإضافية مشروعة، لها سند من الدين؛ لوجود أصل لها ثابت في الدين من حيث الموضوع، فليس فيها تغيير إلا من حيث الشكل، فمثلاً نجد أن أصل الصلاة على النبي ثابت بالنص، ولكن تركيبها مع الأذان غير ثابت، فهذا التركيب بدعة إضافية؛ لأنه ثابت موضوعًا لا شكلاً.
ومثال آخر وهو أنه إذا كان التسبيح ثابتًا بالنص، فليس لأحد أن يزيد في عدد ركعات الصلاة المفروضة، بدعوى أنه بذلك يكثر التسبيح وذكر الله.
روي عن ابن عباس  - رضي الله عنه - أنه مر يومًا بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى حلقات من الناس وفي أيديهم حصى، فيقول أحدهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ويقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فقال: "ما تصنعون؟!"، فقالوا: "حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح"، فقال: "ويح أمة محمد! ما أسرع هلكتكم... أومفتتحو باب ضلالة"، فقالوا: "ما أردنا إلا الخير"، فقال: "كم من مريد للخير لم يصبه"، وقال أيضًا: "اتبعوا، ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
فهذا دليل على أنه لا يجوز الابتكار في شؤون العبادة، وكأن ابن عباس قال ذلك استنادًا إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
هذا شأن العبادات؛ لا اجتهاد فيها ولا استنباط؛ لأن الله أكملها وحددها شكلاً وموضوعًا على الهيئة التي أراد بها عبادته، فلا يحق لنا أن نتدخل فيها بتغيير شيء من ذلك كمًّا أو كيفًا.
ثم إن العبادة لا تتأثر بتطور الزمان والمكان، بخلاف ذلك جانب التنظيم والتشريع من الإسلام، فإن الإسلام أكمل هذا الجانب من حيث وضع الأسس العامة والنظريات الرئيسية، أما تحديده من حيث جميع الجزئيات والشكليات، فذلك متروك للناس في كثير من الأحوال، ينظمون حياتهم بتنظيمات وشكليات تخضع لهذه الأسس العامة؛ لأنَّ هذا الجانب تتأثر بتطور الزمان وتطور حياة الناس، فلا بد أن تكون فيها شيء من المرونة، ولا يضل الناس مهما تغيرت الحياة وتطورت ما داموا سائرين على هدي هذه الأسس؛ لأنها طريق واضح أمام المسلمين لكل زمان ومكان، وسوف أتناول هذه النقطة بشيء من التفصيل في موضعها المناسب في الفصل الآتي إن شاء الله.
بعد هذا بقي أن نحدد موقفنا من هذا العامل.
موقفنا من هذه الطرق 
ثبت في هذا البحث مدى خروج الطرق الصوفية عن المنهج الإسلامي، سواء كان من حيث اتجاهها العام في الحياة، أو من حيث مزج مفاهيمها بالمبادئ الفلسفية والديانات الأخرى، أو من حيث إن مراسمها المختلفة التي اخترعوها للتعبد - بدعة خارجة عن حدود التعبد في الإسلام.
وإذا كان الأمر كذلك فعلينا إذًا أن نحاربها ونلغيها، ونعلن براءة الإسلام منها، وأنها تشوه المفاهيم الإسلامية في الخارج والداخل، ثم نشرح هذه الحقائق في جميع الشعوب الإسلامية بكل الوسائل التي يمكن اتخاذها.
يقول بعضهم: إن علينا إصلاحها، فإنَّ الأخطاء تصلح بالتوجيه والإصلاح، لا بالإلغاء والإعدام.
حقًّا هذا الاعتراض له وجاهة لو كنَّا بحاجة إليها، ولا يمكن لنا الاستغناء عنها؛ لكنَّا لسنا بحاجة إليها؛ لأن الإسلام منهاج واحد، وطريقة واحدة، فإن التمسك به من جميع جوانبه، والسير على طريقته ومنهاجه هو تطبيق الإسلام على الوَجْهِ الصحيح، وهو الذي يجمعنا جميعًا في صف واحد، ويوجهنا إلى جهة واحدة؛ أمَّا إنشاء الطرق المختلفة باتجاهات ومراسيم متنوعة، فما هي إلا تفريق الأمة، وإفشاء الخلاف بين علمائها، وانحلال قوى الوحدة في نفوسها، وفتح الثغرات لدخول النفوذ الأجنبي، وظهور الآراء المنحرفة في صفوف المسلمين.
وأخيرًا ينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ نقدي للطرق الصوفية، لا للتصوف أو الحياة الروحية في نطاق الإسلام، قد يساء بي الظن أنِّي بهذا الموقف من الطرق قد ظلمتها، غير أنني لو ذكرت لكم رأي الإمام القشيري فيها - وهو من أعلام التصوف - في تصوف هؤلاء؛ لظهر أن حكمي عليهم أخف من حكمه.
يقول: "حصلت فترة في هذه الطريقة؛ لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيوفهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعَدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الفضلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاع بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا أنطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا؛ بل صرفوا"[14].
وإذا كان الإمام القشيري يهاجمهم بما هم عليه في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، فما بالك بما آلت إليه أحوالهم بعدَهُ حتَّى يومِنا هذا.
وليس ما قلتُه هنا مجرد ملاحظات لبعض الطرق؛ بل هو عن دراسة واعية، وملاحظات مباشرة للطرق في مختلف البلاد.
وليس ما قلتُه هنا أيضًا هو كلُّ نتيجةِ دراستِي وملاحظاتي؛ بل كل ذلك سيأتي موضحًا ومفصلاً في رسالة خاصة أعدها بعنوان "نشأة الطرق الصوفية، وعلاقتها بالإسلام"، وما ههنا إلا مجرد لمحات وإشارات مناسبة لحجم الكتاب، ذكرتها كعامل مشوه لروح الاسلام، وشعاري الأخير هنا هو أن الإسلام طريق واحد، لا يحتاج إلى الطرق.
(4) فوضى التـأويل
أشرت في بعض المناسبات - فيما سبق - إلى دور فوضى التأويل في تشويه روح الإسلام؛ ولكن هذه الإشارات لما كانت غير كافية للإحاطة بدورها في هذا الميدان، احتجت إلى أن أخصه بعنوان؛ ليكون دورها واضحًا كل الوضوح في نظر القراء.
وقبل توضيح ذلك أريد بيان الحقيقتين الآتيتين؛ لأنهما بمنزلة ميزان نزن به مدى خطر هذا العامل في هذا المجال.
أما الحقيقة الأولى: فهي أن الإسلام منهاج جاء ليتبعه الناس ويسيروا عليه، بدلاً من أن يسير وفقًا لهوى الناس ويسير تبعًا لآرائهم المختلفة؛ بل هو ميزان لجميع القيم، جاء لتوزن به الحقائق والقيم، لا ليوزن هو بما يضعه الناس من القيم والمناهج.
وأما الحقيقة الثانية: فهي أن الإسلام يهدف دائمًا إلى تحقيق المطالب الأساسية للفرد في حدود القيم والمبادئ التي جاء بها، دون إضرار بمصلحة الغير؛ فلا يسمح للفرد بتحقيق مطالبه بأية طريقة كانت، ولو على حساب الآخرين.
غيْرَ أنَّ التَّأويل حين أصبح فوضى، بدون قيد ولا شرط، وحين أصبح وسيلة لتبرير الاتجاهات الشخصية، بإيجاد سندٍ لها من الدين بأية طريقة كانت، حين غيَّر المؤولون المنحرفون الحقيقتين السابقتين، فعكسوا القضية الأولى بقصد أو بغير قصد؛ بجعل آرائهم ميزانًا، وأهوائهم واتجهاتهم منهاجًا، ثم حاولوا إخضاع الآراء الإسلامية لآرائهم، ومنهاجه لمناهجهم؛ وبذلك جعلوا الإسلام عرضة لأهوائهم، وأستارًا يخفون وراءها سوء نياتهم.
وقد حذرنا الله من اتباع هؤلاء؛ لسوء مصيرهم في النهاية، فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وغير ذلك من الآيات يندد بهذا الاتجاه.
إنَّ الفكرة يجب أن تنبع من قلب الإسلام، لا أن تعتنق من الخارج أو من هوى الناس، ثم تفرض على الإسلام فرضًا.
وكانتِ النتيجة الحتمية لهذا الاتجاه الخاطئ أنْ أصبحت هناك مناهج مختلفة، واتجاهات متعددة بين صفوف الأمة الإسلامية، ومن ثَمَّ تعدَّدت الآراء، وتشتت الأمة، وأصبح الإسلام عرضة لآراء وأفكار متناقضة، ونظريات متهافتة.
وفي ذلك تشويه وتشويش؛ تشويه لروح الاسلام من جهة، وتشويش على فكر الأمة من جهة أخرى.
وكذلك تغافلوا عن الحقيقة الثانية كما فعله البعض، أو جهلوها كما فعله البعض الآخر.
إن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع مصلحة الناس كأفراد وجماعات، ولا يقف أمام مطالبهم ما داموا يطلبونها في حدود القيم الأخلاقية والدينية، وما داموا يطلبونها بطريقة لا تضر الآخرين إن عاجلاً أو آجلاً.
غير أن بعض الناس يرسم لنفسه طريقًا للوصول إلى هدفه، فلا يستشير الإسلام قبل رسم طريقه: أهو موافق للمبادئ الإسلامية أم مخالف لها؟ ثم يجد الإسلام يعارضه، ففي هذه الحالة، إما أن يحاول التوفيق ولو بطريقة تعسفية، فيُحمِّل الآيات ما لا تطيق، وبذلك ينفذ طريقته غير الشرعية باسم الشريعة، ولو أضرت بمصلحة الأفراد والجماعات.
وإما أن يقول: إن الإسلام يعارض مصلحة الناس، وفي كلتا الحالتين يصبح الإسلام مظنة سوء، حقًّا إن الإسلام يقف أحيانًا في طريق الناس، ويعارض بعض الوسائل التي يتخذونها لقضاء مآربهم؛ لأن ما فيها من الأضرار أكثر مما فيها من المصلحة التي يلاحظونها، أو لأن ما يترتب عليها من الأضرار سوف يحدث في المستقبل، وهم لا يدركونها لأنهم لا ينظرون إلا إلى القريب العاجل، وأحيانًا يقف الإسلام سدًّا أمام مصلحة الفرد من أجل مصلحة المجتمع، إذا أراد تحقيق مصلحة على حساب الناس، أو بطريقة غير أخلاقية، فعدم ملاحظة هذه الأمور عمدًا أو بغير عمد من الأسباب الرئيسية في فوضى التأويل، التي رأينا بعض صور منه لدى إخوان الصفا وبعض فلاسفة المسلمين؛ أمثال الفارابي وابن سينا.
ويطول بنا المقام لو ذكرنا أمثلة لمثل هذا التأويل عند مختلف الأحزاب السياسية، والطوائف وأهل الطرق الصوفية؛ ولهذا أكتفي بما سبق، غير أنني أحاول هنا تلخيص دوافع هذا التأويل التعسفي؛ حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، فأهم هذه الدوافع أو الأسباب هي ما يلي:
أولاً: محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة، كما رأينا لدى السابقين، أو بين الإسلام والمذاهب السياسية أو الاقتصادية كما نراه لدى المحدثين، وقد بينَّا خطأ هذا الاتجاه بوجه عام.
ثانيًا: محاولة إيجاد سند أو دليل من الإسلام للآراء الشخصية أو اتجاهاتها؛ حتى تجد قبولاً لدى الجمهور.
ثالثًا: تبرير الاتجاهات المنحرفة، وقد قال تعالى في حقهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
وعلى كل حال فإنها جميعًا قد أدت إلى نتائج سيئة؛ إذ إنها شوهت روح الإسلام في نفوس المسلمين وغير المسلمين على السواء؛ إذ إن المبادئ الإسلامية أصبحت بذلك متناقضة متضاربة، وصدق رسول الله حين بيَّن لنا أن مثل هذه التأويلات تؤدي إلى مثل هذه النتيجة فقال: ((إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به))، قال ذلك بعد أن نزل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
من أجل هذا كله يجب أن نحدد موقفنا من هذا التأويل، وذلك:
أولاً: بإعلان حرب شعواء على فوضى التأويل.
ثانيًا: إعادة النظر إلى النصوص ودراستها، بعيدًا عن الخلافات المذهبية والحزبية، متخذين الهدف الأساسي للوصول إلى الفهم الصحيح.
ثالثًا: وضع قانون للتأويل وحدود نسير داخل قيوده.
15:19

العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام 1

حاولنا أن نكشف في الصفحات القليلة السابقة عن مدى احتياج الإنسانية إلى الإسلام؛ كمنهاج لحياتهم، وطريق لسعادتهم، وفي سبيل ذلك حاولنا إبراز روح الإسلام في بعض جوانبه، وفلسفته فيها، ثُمَّ ميزتها على الفلسفات والأديان الأخرى، كما عرفنا مدى موافقته لفطرة الإنسان، وطبيعة خلقته.
بيد أنَّ هذه الرُّوح لم تبق على أصالتها في أذهان الناس؛ بل شوهت وتغيرت، حتى اختلطت روح الإسلام بروح الأديان الأخرى، وامتزجت فلسفته بفلسفات الفلاسفة، وعندئذ لا تبدو ميزة الإسلام على هذه الأديان والفلسفات، ولم تعد تلائم فطرة الناس، بعد هذا التشويه والتغير.
هذا التشويه هو الذي جعل الناس يبتعدون عن الإسلام، ويتهربون منه، حتى إذا دُعُوا إليه، وإلى السير على منهجه؛ عادوا الداعي، ولم يلتفتوا إلى دعوته.
 وإذا أردنا عودة الناس إلى الإسلام فلا بد أن نزيل هذا التشويه عن منهاج الإسلام أولاً وقبل كُلِّ شيء؛ ولكن لا يمكن ذلك إلا بالتعرف على الأسباب والعوامل التي أدت إلى تشويهه؛ لذا بات من واجبنا أن نبحث اليوم عن أهم العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام، ثم نبين موقفنا، وكيفية التخلص من هذه العوامل؛ حتى تكون دعوتنا إلى الإسلام من جديد دعوة صافية، تبحث في روحه، بعيدًا عن هذه العوامل وأثرها فيه.
(1) السياسة
 لعبت السياسة دورًا كبيرًا في تشويه روح الإسلام - منذ ظهوره إلى يومنا هذا - وذلك عندما اتخِذ الإسلام وسيلة لتحقيق المآرب الشخصية، ومطية للوصول إلى أهداف دنيوية.
غير أنَّ هذه الحقيقة لا تبدو واضحة إلا إذا شرحنا السياسة وأنواعها؛ من سياسة المسلمين، وسياسة الاستعمار، وسياسة الاستشراق، وبينَّا دور كل واحدة منها في التشويه، عند ذلك يتجلى ما قلناه بوضوح.
سياسة المسلمين
ظهرت السياسة الإسلامية على مسرح الحياة أول مرة بعد أن تكونت الدولة الإسلامية في المدينة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاشت الأمة الإسلامية تحت قيادته الرشيدة في وحدة سياسة، ولم تظهر خلال عهده كله خلافات تمثل جماعات إسلامية سياسية، أو بعبارة أخرى أحزاب سياسية تُمَثِّلُ اتِّجاهات مختلفة.
وبعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - مباشرة ظهر أول خلاف سياسي في اجتماع السقيفة، يمثل ثلاث جماعات: الأوس، والخزرج، والمهاجرين.
بيد أن ذلك لم يستمر، ولم يؤدِّ إلى التفرقة في صفوف الأمة، واستمرت الحال أيضًا في هدوء وسكينة إلى آخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبعد مقتله مباشرة ظهرت الخلافات السياسية بين طوائف الأمة، التي جلبت على الإسلام والمسلمين فيما بعد أضرارًا بالغة الخطورة، وآثارًا سيئة، لا تزال تعاني منها الأمة إلى يومنا هذا!
ذلك أن الأمة قد انشقت بعد مقتله إلى حزبين؛ حزب يناصر عليًّا، والآخر يوالي معاوية، ثم انقسم حزب علي إلى حزبين؛ حزب تشيع له، وأخذ على عاتقه الدفاع عنه والانتصار له؛ وسمي شيعيًّا، والآخر خرج عليه، وسمي هذا الحزب خوارج؛ وبذلك تكونت ثلاثة أحزاب متخاصمة ومتحاربة، كل واحد يحارب الآخر، وجاء العباسيون بعد ذلك يحاربون الأحزاب الثلاثة السابقة.

فكم من معارك دارت بين هؤلاء وأولئك، حتى ذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء هذه الأمة، ما لو قاموا بحرب ضد العدوان الخارجي، لأخضعوا رقاب الأعداء، وفتحوا العالم، ونشروا الإسلام في ربوعه.
كما أنهم لم يتجنبوا إراقة دماء المسلمين في سبيل تحقيق أغراضهم الشخصية، كما لم يتجنبوا اتخاذ الإسلام ستارًا أمام أطماعهم الفردية، وأداة طيعة؛ يؤولون آياته، ويضعون أحاديث مكذوبة، كل ذلك لتثبيت اتجاههم، وتحقيق مزاعمهم، وقد أدخلوا مبادئ غريبة على الإسلام، ثم صبغوها بصبغته؛ لتكسب نصرًا.
من هذه المبادئ والمفاهيم الدخيلة: ما ذكره الشيعة من أن عليًّا - رضي الله عنه - وَصِيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الخلافة حق له ولبَنِيهِ دون غيرهم من الناس، وبذلك جعلوا الخلافة وراثية.
وقالوا: إنه لم يمت، وتطرف بعضهم حتى قال: إنه نبي في التقدير، وأخطأ جبريل في التنزيل، وزاد آخرون في تطرفهم هذا حتى ألَّهُوه!
ومن المفاهيم الغريبة على الإسلام: ما أتى به الخوارج من تكفير المسلمين، وتحليل دمائهم وأعراضهم!
كما أدخل الأمويُّون المبدأ الملكي في نظام الحكم بدل الشورى، فأصبح الحكم وراثيًّا لبني أميَّة، فلا يناله غيرهم ولو كان أحق منهم وأجدر بهذا المنصب، وبذلك جلبوا على الأمة ويلات وفتنًا.
وكل هذه المبادئ التي ذكرناها، والتي لم نذكرها - لم يراعِ مبتدعوها عند وضعها حُكْم الإسلام، ولا مصلحة الأمة، وإنما راعَوْا مصلحتهم الشخصية، وهدفهم الذاتي.
ثم ظهرتْ بعد هذه الأحزاب السياسيَّة مذاهب أخرى غير سياسية، وإن كان ظهورها نتيجة لهذه الأحزاب؛ مثل المرجئة، والمعتزلة، والجبرية، والأشعرية، والماتريدية، وبظهور هذه الفرق ظهرت آراء ومفاهيم متعددة متناقضة.
 وقد اتخِذ الجدل والتأويل وسيلة لتأييد فكرة، أو للتغلب على الخصم في أحايين كثيرة، كما ظهرت بحوث جدلية في موضوعات فرضية؛ فكان ضررها أكثر من نفعها.  
كما كان لحكم بعضِ الخُلَفَاءِ دَوْرٌ كبير في تشويه روح الإسلام، في أذهان كثير من الناس، ذلك أنهم حينما كانوا يحكُمون باسم الإسلام كانوا يحكمون بالظلم والاستبداد، وقتل الأبرياء إن اعترضوا طريقهم، أو أوجسوا منهم خيفة، مع أن الإسلام يمنع القتل بالشبهة، ولكن هذا ما كان ليثير اهتمامهم؛ بل كان يهمهم سلامة أنفسهم ودولتهم كيفما كان الأمر، ومع ذلك فهم صبغوا أفعالهم هذه بالصبغة الإسلامية.
 وما كان لتؤثر أفعالهم هذه في تشويه حكم الإسلام لو أنهم لم يبرروها تبريرًا دينيًّا، ولم يسندوها إلى حكمه؛ ولكن عند ما سلكوا هذا المسلك أصبحت أفعالهم وصمة في جبين الإسلام، مما دعا جماعة المستشرقين إلى القول بأن نظام الحكم في الإسلام نظام دكتاتوري استبدادي؛ يعطي الحاكم حق الحكم المطلق، فما يفعله الحاكم يقره الإسلام، وهي التي جعلت المسلمين أيضًا يخشون من الحكم الإسلامي عندما يُطالبون بإعادته إلى شؤون الحياة في العصر الحديث.
هذا ويُمكنا أن نلخِّص في النقط الآتية النَّتائج السيئة التي أدى إليها اتخاذ الإسلام وسيلة لأهداف سياسية فيما يأتي:
أوَّلاً: تشويه بعض الناس لروح الإسلام، وذلك بتأويلات بعيدة لنصوصه، وبإدخال مبادئ ليست منه؛ والهدف الأساسي من ذلك هو إثبات مواقفهم المنحرفة، وتبرير اتجاهاتهم المخالفة للإسلام باتخاذه سندًا لها.
ثانيًا: تفريق الأمة إلى فرق وأحزاب كثيرة، متعددة الأهداف، مختلفة الأشكال، حتى كان هدف بعضها حرب الإسلام والمسلمين، مستترًا وراء شعارات إسلامية!
ثالثًا: أنَّها أوجدت ثغرات لينفث منها الأعداء سُمومَهُم ضد الإسلام والمسلمين.
رابعًا: ابتعاد المسلمين عن دينهم، ثم عزل الإسلام عن مجال الحياة.
سياسة المستعمرين
لقد استرعت أنظارَ الأعداء الحالةُ التي صار إليها المسلمون - نتيجةً للسياسة السابقة - من ابتعادهم عن دينهم، وعدم تمسكهم بوحدتهم، وكثرة فرقتهم وخلافاتهم فيما بينهم.
كذلِكَ رأَوْا أنَّ الحالةَ الَّتِي آلَ إلَيْها أمْرُ المُسلِمِينَ لا تُساعدهم على الدفاع عن أنفسهم، ومن ثم يمكن أن يندسوا بين صفوفهم؛ ليزيدوا الطين بِلة.
من أَجْلِ هذا اتَّجهوا إلى احْتلال البلاد الإسلامية، وابتلاعِها شيئًا فشيئًا، فاحتلُّوا أوَّلاً الأندلس، ثُمَّ الهِنْد والجزائر وهكذا، حتى وقعت البلاد الإسلامية كلها في قبضتهم، إلا بعض الأجزاء البسيطة منها.
ولكن الاستعمار لم يأمن على استقراره وبقائه؛ لأن المسلمين، وإن آلوا إلى هذا المصير؛ فإن الإسلام ما دام له حيوية، وقرآن يتلى عليهم بالمفهوم السابق، فلا بد يومًا أن يوقظهم من سباتهم، فينفضوا الفتور والأوهام، ويعيدوا مجدهم وسلطانهم ووحدتهم كما كانوا من قبل.
إذًا ماذا يصنعون؟ فاتخذوا قرارًا وهو أنه لا بد من بذل الجهد لتشويه روح الإسلام، ولا بد من تشكيك المسلمين في عقيدتهم، وفي قيمة مبادئهم الدينية؛ حتى تموت روح العاطفة الدينية في نفوسهم، وحاولوا في نفس الوقت رفع قيمة مبادئهم فوق المبادئ الإسلامية، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية اتخذوا الخطوات الآتية:
- إثارة الخلاف بين الفرق الإسلامية.
- تشجيع رجال الدين غير الإسلاميِّين على النَّيْل من المبادئ الإسلامية والانتِقاص منها.
- خلق مذاهب بشعارات إسلامية، يرأسها بعض الأفراد المنحرفين المنتسبين إلى الإسلام، هدفها نقد الإسلام بالباطل، وخلق آراء وتفسيرات للإسلام تخالف روحه، وتشوه جوهره.
ودور إنجلترا في الهند وباكستان يمثل هذا الاتجاه خير تمثيل، فإنها إبان استعمارها هذه البلاد حثَّت أولاً رِجَال الدين المُعادين لِلإسْلام على الطَّعن في المبادئ الإسلامية، إلى جانب دعايتها المغالية للمسيحية، ثم عملت على خلق مذهب يخضع لِحكْمِها، ويسير وفقًا لهواها.
وقد اصطُنع السيِّد أحْمَد خان لهذا الغرض، فبدأ هذا العميل يعمل دوره الخسيس ضد الإسلام باسم التقدمية، وتحت شعارات إسلاميَّة أطلقها على جماعته ومجلته.
فمن أعماله: أنَّه فسَّر القرآن على أساس المبادئ الطبيعية، وفي سبيل ذلك ارتكب أفحش التأويلات؛ بعد أن حرَّف كثيرًا من المفاهيم الصحيحة عن مواضعها.
وأصدر مجلة باسم "تهذيب الأخلاق"، فكان لا ينشر فيها إلا ما يثير الشقاق بين المسلمين، ولا سيما بين مسلمي الهند والعثمانيين، وجهر فيها بخلع الأديان، ولا يقصد منها إلا الإسلام؛ ولهذا سمي أتباعه بالدهريين، أو الطبيعيين.
كما أنشا مدرسة سماها المدرسة المحمدية؛ لتنشئة أبناء المسلمين على أفكاره السامة.
ولكن مهما كانت آثاره واضحة، فإنه لم يستطع تحقيق كل ما كانت ترجوه إنجلترا من وراء حركته؛ ولهذا اتجهوا من جديد لإنشاء مذهب آخر، عُرِف بالمذهب القادياني، ومؤسسه: ميرزا غلام أحمد.
فقد ادعى هذا أنه نبي حَلَّ فيه روح عيسى ومحمد؛ ليفسح المجال لهؤلاء المستعمرين المسيحيين؛ حتى يتخللوا صفوف المسلمين أولاً، وليجدوا الاستقرار والأمان في ديار المسلمين ثانيًا.
ثم ادعى أنه أوحي إليه، كما ادعى أن الجهاد ليس معناه العنف والقوة، وإنما هو وسيلة للإقناع؛ وذلك ليُميت روح الجهاد والمقاومة في نفوس المسلمين، وأخيرًا دعا المسلمين إلى الولاء للإنجليز، وإلى إطاعة حكمهم.
بعد هذا أنشأ مذهبًا آخر، وعُرف بالأحمدية؛ لخدمة أغراض الاستعمار الإنجليزي، سواء كانت هذه الخدمة بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة.
من هذا كله يبدو لنا بوضوح أنه كان هناك للاستعمار غرضان هامان من وراء هجومه على الإسلام بالوسائل المختلفة؛ أحدهما: تشويه روح الإسلام، وثانيهما: الاستقرار في الوطن الإسلامي.
سياسة المستشرقين
قبل بيان الدوافع التي دفعت المستشرقين إلى دراسة الإسلام، وأهدافهم منها - نود أن نعرفهم، ونعرف أصولهم.
فالمستشرقون هؤلاء الذين درسوا العلوم الإسلامية من الذين لا يدينون بالإسلام، والذين بحثوا عن أصلهم وجدوا أكثرهم يهودًا، ثم يليهم في الكثرة المسيحيون.
أما الدوافع التي دفعتهم إلى دراسة الإسلام، فهي ما يلي:
أولاً: محاولتهم دراسة اللغة العبرية؛ باعتبارها لغة نصوص الديانة المسيحية، وهذا قادهم إلى دراسة اللغة العربية؛ لوجود اشتقاق بينهما.
وبعد هزيمة الصليبيين وقيام إصلاح ديني في أوروبا - بدؤوا يهتمون بدراسة الإسلام.
ثانيًا: القيام بالتبشير؛ لنشر المسيحية بين المسلمين.
وهنا اتصلت مصلحة المبشرين بالمستشرقين من جهة، واتصلت مصلحة المستعمرين بالمستشرقين والمبشرين من جهة أخرى؛ ذلك أن المستعمر والمبشر احتاجا إلى المستشرقين؛ لأنهم يعرفون الإسلام ولغته، فيعرفون كيف يدسون عليه، وبذلك ازداد نشاطهم، وزاد اهتمامهم بدراسة الإسلام.
ثالثًا: حب الاطلاع على الثقافة الشرقية؛ دينية كانت، أم أدبية، أم تاريخية.
رابعًا: تشكيك المسلمين في دينهم، وتضليلهم، وأكثر مَن اتجه نحو هذا الاتجاه[1] من المستشرقين، هم مستشرقو اليهود ثم المسيحيين.
وليس ما نراه اليوم عند هؤلاء بغريب علينا؛ إذ إن هذا كان غايتهم من قديم الزمان، ولقد كشف لنا القرآن غايتهم هذه، فقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي نبهتنا إلى نواياهم وأهدافهم السيئة نحو المبادئ الإسلامية.
هذه هي الدوافع التي أدت بهم إلى هذا الموقف من الإسلام بعد تطورات في الأهداف.
وأما أهدافهم في العصر الحديث، فتنحصر في الهدفين المهمين الآتيين:
الأول: هو محاربة الإسلام ومحوه من الوجود، إن أمْكَنَ؛ وإلا فإبعاد المسلمين عنه على الأقل.
الثاني: هو إبقاء المسلمين في تأخُّرهم، وخلق التخاذل الروحي في نفوسهم؛ وذلك بالوسائل المختلفة التي ذكرنا بعضها فيما مضى، وسنذكر بعضَها الآخر فيما يأتي[2].
ولتحقيق الهدف الأول اتَّخذوا الوسيلتَيْنِ الآتيتَيْنِ:
الأولى: نقد قيمة المبادئ الإسلامية بالوسائل الخداعة، والدعاوى الباطلة.
فمن ذلك قولهم: إنَّ مُحمَّدًا ليس رسولاً، وإنَّ القرآن ليس كتابًا منزلاً من السماء؛ وإنما هو نسخة، نسخه محمد من كتابي العهدين القديم والجديد (التوراة والإنجيل).
وإن الإسلام ليس دينًا؛ لأنه يدعو إلى التمتع بلذائذ الدنيا، ويتدخل في تنظيم حياة الناس من جميع الجوانب، فالدِّين لا يتدخل في مثل هذه الأمور؛ وإنما الدين الحقيقي لا يهتم إلا بجانب العبادة، أو الجانب الروحي من حياة الإنسان.
ومن ذلك أيضًا قولهم: إن المبادئ الإسلامية غير صالحة للتطبيق على الواقع في العصر الحديث؛ لأنها تدعو إلى الدعة، والكسل، والتأخُّر؛ لارتباطه بالقضاء والقدر.
 وغير ذلك من الدعاوى الباطلة التي يدرك بطلانها من كان عنده أدنى إلمام بحقائق المبادئ الإسلامية.
والثانية: رفع شأن المبادئ المسيحيَّة، وجعلها مقياسًا عامًّا لمبادئنا؛ فإنهم أسقطوا قيمة المبادئ الإسلامية، حتى أخرجوها من الدين، وقالوا بأنها غير صالحة للتطبيق على الواقع، ورفعوا قيمة مبادئهم؛ حتى جعلوها مقياسًا عامًّا لمبادئ الإسلام؛ فإن وافق مبدؤنا مبدأهم يقولون: إنه مبدأ سليم، وإن خالف فهو باطل.
وقد أشار القرآن إلى اتجاههم هذا، فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقال أيضًا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. 
فكأن كل مبدأ من مبادئهم حقٌّ لا يتطرَّق إليه الشكُّ، وكل مبدأ من مبادئنا لا يتفق معها باطل.
ومِمَّا يؤسِفُنا أن نرى بعض دعاة الإسلام - ولا سيما المثقَّفين منهم - قد تأثَّروا باتِّجاه المستشرقين؛ فهم حين يرون مبدأ إسلاميًّا ينقده المستشرقون؛ لعدم موافقته لأحد مبادئهم - يقومون بمحاولات بعيدة عن روح الإسلام للتَّوفيق بينهما.
كما نجدها في تعدُّد الزوجات؛ حين وجدوه لا يوافق ما عندهم، فقالوا: إن آية التعدد وإن أباحت التعدد؛ إلا أن الآية الثانية وهي {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] تنزل الإباحة منزلة الحرام، ولو أنَّهم خطوا خطوة أخرى لقالوا: إن الآية الثانية نسخت الأولى.
مثل هذه المحاولات المتأثرة باتجاه المستشرقين؛ نَجِدُ أمثالها كثيرًا لدى المسلمين، في كثير من القضايا الإسلامية ومبادئها، وهذا الاتجاه منهم أخطر على الإسلام من عمل المستشرقين، واتجاههم نفس الاتجاه؛ إذ إنهم بذلك يَجعلون مبادئ المستشرقين مقياسًا لمبادئنا من حيث لا يشعرون، ثم إن هذا إن دل على شيء؛ فإنما يدل على قِلَّة الاعتزاز بالإسلام، والغفلة عن أغراض المستشرقين وخدعهم.
ومن وسائل خداع المستشرقين أيضًا: تظاهرهم في وصف بعض المبادئ الإسلامية بمظهر المنصف العادل؛ لنصدقهم في وصفهم الجائر للمبادئ الأخرى، وفي ذلك تشويه ما بعده تشويه؛ إذ إن بعض المبادئ يكون بذلك حقًّا، وبعضها الآخر باطلاً في أذهان الناس.
ومنها أيضًا إنشاؤهم أكاديمية علميَّة للمقارنة بين الأديان، وإعلانهم عنها بأنهم سوف لا يخضعون في أحكامها وقراراتها للأهواء والعواطف الدينية؛ بل سوف يعطون كل ذي حق حقه؛ كما تهديهم إليه عقولهم وبحوثهم الخاصَّة لقوانين البحوث العلمية، المجردة من التعصب والانحياز.
مع ذلك نرى نجد أكاديميتهم العلمية - كما يقولون - لم تغير الزاوية التي كانوا ينظرون منها إلى الإسلام قبل ذلك، ولا تزال أحكامُهم تُشْعِرُ بأنَّها صادرةٌ عنِ التَّعصُّب، والتحيُّز إلى دينهم، فإنَّهم ما داموا قد جعلوا مبادئهم مقياسًا عامًّا - حتَّى في أكاديميتهم - فلا يُمكِنُ أن تظهر الحقائق أو يصلوا إليها، وبالتالي فلا يوثق بما يصدرون من النتائج العلمية فيها.
إذًا لا بدَّ من أن نُحدِّد موقِفَنا منهم؛ وذلك بألا نصدق ما يصدرون؛ لظهور سوء نياتهم، وقلبهم للحقائق وتغطيتها بالأباطيل، وأن نعتبر مبادئ الإسلام مقياسًا وميزانًا للمبادئ الأخرى، ولا نكون بذلك دوجماطقيين[3] على حد تعبيرهم؛ بل هم دوجماطقيون في الحقيقة؛ فإنهم يتظاهرون بمظهر مَن يحب الفكرة الفلسفية الحرة، والاتِّجاه الفلسفي في البحوث، الذي لا يرى إلا الوصول إلى الحقائق؛ فإذا بنا نراهم رأي العين دجماطقيين في فكرتهم، وفي اعتقادهم، وفي بحوثهم؛ لا يخضعون للحق وإن ظهر أمامهم كالشمس، ويتمسَّكون بمبادئهم ولو كان بطلانها واضحًا.
إلى جانب هذا لا نقف سلبيين، ولا نكتفي بِمُجرَّد الدِّفاع؛ بل نتَّخِذُ أسلوب الهُجوم الدِّفاعي؛ ندافع عن ديننا، وفي نفس الوقت نهاجم مبادئهم المحرَّفة عن أصل المنهاج الإلهي، واتِّجاهاتهم الخادعة، كما نبيِّنُ في نفس الوقت حكمةَ مبادِئِنا، وفَلْسَفَتِها الحقيقية.
نعم ما كنا بحاجةٍ إلى هذه الرُّدود، وكان من الممكن أن نتركهم وما يخوضون؛ ولكن هجومهم الجائر على الإسلام والمسلمين لا يتردَّد صداهُ بيْنَ المُسْتَشْرِقين وَحْدَهُم؛ لأنَّهم يُعْلِنونه بيْن جماهير شعوبِهم؛ بل يتخطَّوْنَ حدودَهُم فيَنْشُرون قَدْحَهُم واتِّهاماتِهم بين الأمم كلها، فبهذا يجعلون الناس يكرهون الإسلام والمسلمين.
من أجل هذا وذاك لا بد من أن نناقشهم، ونرد عليهم بكل شجاعة واعتزاز، ثم نقارن بين مبادئنا ومبادئهم؛ حتى يرى هؤلاء وأولئك مدى سمو مبادئنا، ورفعة شأنها، وعلوها من جميع الجهات، وأعتقد أننا لو استطعنا إظهار فلسفة الإسلام - كما هي - فإنها كفيلة بدحض كل الحجج ضدها، وإخضاع كل متنكر لها.
لهذا فعلينا أن نُحَدِّد موقِفَنا إزاء السياسة بوجه عام بما يأتي:
1- عدم اتِّخاذ الإسلام في أيِّ موقف من المواقف وسيلة لأغراض سياسية، وإعلان الحرب على من يَتَّخِذُه وسيلةً لَها.
2- عدم التعاون مع أي حزب أو طائفة أو مذهب يتخذ الإسلام شعارًا له؛ إلا بعد البحث عن حقيقته، وأهدافه البعيدة، والدوافع التي دفعته إلى تكوينه؛ لنعرف مدى صلته بالإسلام، وإخلاصه له؛ لأنَّنا قد عرفنا كثيرًا من الجماعات أضرَّت بالإسلام والمسلمين باسم الإسلام. 
  3- أن نكون على حذر تام من الأعداء؛ ولا سيما المستشرقين، ومن الذين يدعون إلى الإسلام، ولهم صلات بأعداء الإسلام؛ لأن أعداء الإسلام من سياستهم اتخاذ العملاء لهم من المسلمين؛ لقضاء مآربِهم بواسطتهم ضد الإسلام والمسلمين.
(2) الفلسفة 
وكانت الفلسفة هي العامل الثاني من العوامل التي أدت إلى تعقيد روح الإسلام، وتشويه جوهره؛ ذلك أنها عندما انتقلت إلى العالم الإسلامي بواسطة الترجمة؛ فإنها قد أثارت موجة من الشك، انتشرت في جميع الشعوب الإسلامية.
وكان هذا الشك الذي أثارته شاملاً لجميع جوانب الإسلام، وكل القيم والمبادئ التي جاء بها، وليس هذا ببعيد عن الفلسفة؛ بل إنه نتيجة ضرورية لها في بداية الطريق، أو المرحلة الأولى من إنشائها؛ لأن من منهجها الشك في قيمة الشيء قبل أن تصدر حكمها عليه، وبذلك تجعل نفسها حاكمًا عامًّا على كل القيم؛ بل على الوجود كله أيضًا.
وكانت الطامة الكبرى على الإسلام والمسلمين حين عظمها العلماء الذين اشتغلوا بها، وأعطوها حق هذه السلطة العليا، كما فعله البعض، أو رفعوها إلى منزلة الإسلام على الأقل، كما فعله البعض الآخر.
عند ذلك حاولوا التوفيق بين الإسلام والفلسفة، بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الفلسفية، واتخذوا منهاج الفلسفة وبراهينه في الاستدلال على العقائد الإسلامية، وإزالة الشبهات والشكوك في الأمور الكلية أو الجزئية التي أثارتها الفلسفة، أو أثاروها هم أنفسهم بسببها.
ويا ليتهم نجحوا في التوفيق بين الفلسفة والإسلام في كل المواضع التي حاولوا التوفيق فيها، ويا ليتهم استطاعوا إزالة الشكوك عن المواضع التي شككت فيها، بطريقة مقنعة.
بل في سبيل التوفيق حرَّفوا بعض المفاهيم الإسلامية عن مواضعها حينًا، وقد أدخلوا في الإسلام من المبادئ الفلسفية حينًا آخر، وفي سبيل دفع الشكوك والشبهات التي أثارتها الفلسفة أثاروا شبهات أخرى بطريقة جدلية، اتَّخذوها أُسلوبًا لهم في الدفاع والنقاش.
وفي هذه الحالة اتَّسعتْ شُقَّة الخلافِ بَيْنَ العُلَماء، وكثُرَتِ الفِرَقُ في الأُمَّة، وبقي كثير من الناس في حيرة من أمر دينهم، وبذلك تحقَّقتْ كهانة أحد مطارنة قبرص، عندما استشاره رئيسهم في إرسال هذه الكتب الفلسفيَّة إلى المأمون حين طلبها منه؛ قال: الرأي أن نستعجل بإنفاذها إليه؛ فما دخلت هذه العلوم العقليَّة على دولة شرعية إلا أفسدتْها وأوقعت بين علمائها، فأرسلها إليه[4].
وليس معنى ذلك أنَّ الإسلامَ يُخالف العقل أوِ الفلسفة، وإن خالفَ عقليَّة بعض الأفراد؛ لأنَّ عقليَّة الأفراد جزئيَّة لا تمثل مفهوم العقل ككل؛ وإلا لما كان هناك اختلاف بين الناس عامة، وبين الفلاسفة بوجه خاص، وليس في استطاعة أحد الاستدلال على أن فلسفة رجل معين أو عقليته يمثل العقل بمفهومه الكلي.
 إذًا لا نستطيع أن نقول إن الإسلام يخالف العقل أو الفلسفة؛ إذا خالف عقل رجل معين أو فلسفته، وإذًا ليس من الحكمة أبدًا محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة في كل موضع، إذا بدا هناك تعارض، وإنه من الخطأ أيضًا محاولة إخضاع المفاهيم الإسلامية كلها للمفاهيم الفلسفية؛ إذ لا يكون ذلك في كثير من الحالات إلا بحمل النصوص الإسلامية على ما لا تطيق، وتأويلها تأويلاً بعيدًا عن روحه؛ وهذا لا شك إخراج للدين عن طبيعته السهلة المستساغة لدى العامة والخاصة، إلى مفاهيم معقدة.
وكان دافع العلماء إلى التوفيق هو اعتقادهم عصمة الفلسفة، إلى جانب اعتقادهم عصمة الإسلام، وإذا كانت الفلسفة حقًّا، والإسلام حقًّا؛ فلا بد أن يتفقا؛ ولهذا حاولوا التوفيق بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الفلسفية من جهة، وبين آراء الفلاسفة المختلفة أو المتناقضة من جهة أخرى.
وكان الفارابي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا أشخاصًا بارزين بين الذين سلكوا في هذا الاتجاه؛ الاتجاه نحو التوفيق بين الدين والفلسفة، مع تفاوت بينهم في الإدراك والمحاولة، وقد أخذت صورة التوفيق نمطين مختلفين:
النمط الأول: وهو عبارة عن شرح الحقائق الدينية المجملة بالآراء الفلسفية المفصلة.
فابن سينا مثلاً يُفَسِّر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
فإنه فسر هذه الآية بالأفكار الفلسفيَّة الأفلاطونية المحدثة؛ ففسر النور: بالخير، والسماوات والأرض: بالكل، والمشكاة: بالعقل الهيولاني[5]، والمصباح: بالعقل المستفاد، والزجاجة: بالواسطة، وشجرة مباركة زيتونة: بالقوة الفكرية، ولا شرقية ولا غربية: فسرها بلا القوى المنطقية ولا القوى البهيمية، والنار: فسرها بالعقل الكلي المدبر للعالم المشاهد[6].
وهنا مثال للتعسف في تأويل هذه الآيات، وتحويل معانيها السهلة إلى اصطلاحات فلسفية معقدة، كما ندرك مدى التشويه الذي يطرأ على معاني الآيات بهذه التفسيرات البعيدة عن روح الإسلام.
وإخوان الصفا قد فسروا العرش والكرسي: بالأفلاك، فالكرسي هو الفلك الثامن، وهو ملك الكواكب الثابتة الواسعة، المحيط بالأفلاك السبعة تحتها، أدناها القمر ويليه عطارد، وفوقه الزهرة، ومن بعده الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل.
كما فسروا السماوات السبع بهذه الكواكب السبع المتحركة، والعرش: هو الفلك التاسع الثابت، المحيط بجميع الكواكب الثمانية تحته[7]، كما سار على هذا المنوال الفارابي في تفسير بعض الآيات والمفاهيم الإسلامية.
ومن أراد الاطلاع على تفسيرات هؤلاء بالتفصيل، فليرجع إلى كتبهم؛ ليقف تمامًا على مدى التعسف الذي ارتكبوه من أجل التوفيق.
النمط الثاني: وهو تأويل الحقائق الدينية بِما يتَّفِقُ مع المبادئ الفلسفية.
وهذا النمط أخطر من سابقه؛ لأنه يؤدِّي إلى الخَلْطِ والمزج بين الدين والفلسفة، وبالتالي يُؤَدِّي إلى تَغْيِير طبيعة كل واحد منهما.
وكان على رأس الذين اتجهوا هذا الاتجاه في التوفيق: الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشد، غير أن توفيقه أدق وأبعد عن التعسف والشطط اللذين وجدناهما عند السابقين.
فقد حاول الفارابي: التوفيق بين رأي الإسلام في حدوث العالم ورأي الفلسفة في قدمه؛ فقال مرَّة بحدوثه؛ باعتباره أثرًا لله؛ وذلك إرضاء للدِّين، وقال مرة بقدمه إرضاء للفلسفة؛ وذلك باعتبار أنَّ العالم حدث لا في زمان؛ فهو في التصور الزماني قديم.
ومِثْلُ هذه النَّتيجة المُضْطَربة التي انتهى إليها في مُحاولته في هذه النقطة - كانت النتيجة التي وصل إليها في كثير من الموضوعات؛ مثل الثنائيَّة[8] بين الفلسفة والدين، وطبيعة النفس ونظرية الفيض، وما إلى ذلك من الموضوعات التي فشل فيها فشلاً ذريعًا، وما فشل إلا لمحاولته التوفيق بين رأيين متناقِضَيْنِ.
هذه بعض الأمثلة قدَّمْنَاها؛ لتكون لدينا دليلاً على صدق ما ندعي من أن اتجاه التوفيق بين الإسلام والفلسفة في كل موضوع - اتِّجاه خاطئ، قد أدى إلى تعقيد الإسلام، كما أدى إلى تعقيد الفلسفة في نفس الوقت.
ومِمَّن تأثَّر بالفلسفة أيضًا كثير من علماء الكلام أو التوحيد، وكان تأثُّرهم هذا واضحًا كل الوضوح في برهنتهم على وجود الله وعلى وحدانيته؛ إذ إنهم في استدلالهم على وجود الله تأثروا - إلى حد كبير - بالأدلة الفلسفية الموروثة، وكادوا أن يقصروا نظرهم عليها، وأن يكتفوا بها، ذلك أنَّنا عندما نستقرئ أدلَّتَهُم على وجود الله؛ نَجِدُ أنَّها تَهتمُّ وتعتمد على دليل جوهر الفرد، ودليل الإمكان أو الوجوب، ودليل العِلَّة والحدوث، وما أشبهَ ذلك.
وهذه الأدلَّة الفلسفيَّة أدلَّة مُعقَّدة، جامدة، بليدة، لا تُثِيرُ النفس، ولا تقوي الإيمان، وبعبارة أوضح فإنَّها لا تَخْلُق في النفس الإيمانَ القويَّ، الإيمان الحي النابض، ومن جهة أخرى فإنَّها غَيْرُ مُستساغة، لا تتلاءَمُ مع عقليَّة العامَّة، ولا يهضِمُها إلا كِبَارُ العُقُول، وأحيانًا تترك في جوانبها الشكوك والحيرة، وتؤدي إلى جَدَلٍ عقيم.
أمَّا الأدلَّة التي اعتَنَى بِها القُرآن، والتي لم تَلْقَ من هؤلاء كبير الاهتمام هي دليل الاختراع، ودليل العناية، هذه الأدلة هي أدلة القرآن؛ لأنها أدلة عامة تلائم جميع العقول، ولا تترك في جوانبها شيئًا من الشكوك، إضافة إلى هذا فإنها أدلة حية، تخلق إيمانًا حيًّا.
وكما تأثروا بالمنهج الفلسفي في الاستدلال على وجوده تعالى، تأثروا أيضًا بالجدل المنطقي في مناقشة العقائد الإسلامية؛ فبحثوا عن أمور في العقيدة كانوا في غنى عنها؛ مثل هل الصفة عين الموصوف أم هي زائدة عليه؟ وهل الوجود عين الموجود أم غيره؟ وهل صفات الله قديمة أم حديثة؟ وهل كلام الله قديم أم حادث؟ وهل يخلق الله بإرادة قديمة أم حادثة؟
وفي سبيل الإجابة عنها قدَّموا فروضًا عجزوا عن الوصول إلى نتيجة مرضية في كثير من الموضوعات؛ مثل هذه البحوث في مثل هذه الأمور التي تدور حول العقيدة - قد أدَّتْ بِهِم إلى التَّفْرِقة فيما بينهم وبين أتْباعهم أيضًا، وإلى تعقيد العقيدة الإسلامية بعد أن كانت سهلة واضحة.
كما أنَّ هذه التَّصرُّفات قدِ استنفَدَتْ مِنْهُم مَجهوداتٍ عقليَّة، لو بَذَلُوها في ميدان العلم التجريبي لقطعوا به مرحلة واسعة النطاق؛ فأفادهم في حياتهم المادية من جهة، وأفادهم أيضًا في الوقوف على آيات الله في الكون من جهة أخرى[9].
من أجل هذا فإن الصحابة - رضي الله عهم - كانوا يتجنَّبون البحث في هذه الأمور، وكانوا يُعْنَوْنَ بِنَشْرِ الإسلام بَيْنَ الشُّعوب، والتَّفكير في الآيات الكونيَّة، إلى جانب عملِهم من أجل دنياهم؛ ولهذا عاشوا متَّحدين أقوياءَ الإيمان، عمليِّين بدلاً من أن يكونوا جدليِّين.
وكما تأثَّر بالفلسفة علماءُ الكلام، كذلك تأثَّر بِها الصوفية، فأدخلوا في الإسلام من المفاهيم الفلسفية، والتَّصوُّرات الفلسفيَّة البعيدة عن التَّصوُّر الإسلامي ومفاهيمه، وسوف نشرح هذا بشيء من التفصيل في موضوعه الخاصِّ.
ولست أريد بنقد هذا الاتجاه الخاطئ من العلماء التشنيع عليهم، والنيل منهم، والتقليل من جهودهم في سبيل الإسلام؛ فإنَّني إن كنت نقدتهم في عمل من أعمالهم، أو اتجاه من اتجاهاتهم في موقف معين، أو إزاء دراسة معينة؛ فليس معنى ذلك أنَّني أنقدهم في كل موقف وقفوا فيه، أو في كل عمل عملوه.
ولا أقول: إنَّهم منحرفون عن الدراسة الصحيحة عن قصد؛ وإنما أقول: ربما أرادوا الصواب فأخطؤوا الطريق الذي يوصلهم إليه، وأرادوا الدفاع عن الإسلام فاتخذوا وسيلة ظنوا أنهم بذلك يستطيعون الدفاع بها، فكانت عكس ما توهموه.
وإن كل ما أريده هو تنبيه علماء اليوم إلى الاتجاه الخاطئ؛ حتى لا يقعوا فيما وقع فيه السابقون، وليبعدوا الإسلام عن المفاهيم المعقدة، التي لحقت به من جراء خطئهم.
بعد هذا أود أن أبيِّن أيضًا: أنني لست عدوًّا للفلسفة، ولست من المانعين لقراءتها وتدريسها؛ بل إن الفلسفة في نظري قد تساعدنا على فهم فلسفة الإسلام، كما تساعدنا في فهم كثير من القضايا الإنسانية في مراحل تاريخها الطويل، ومدى تطوُّر التفكير الإنساني كلما يقطع مرحلة من مراحل حياته؛ هذا إلى أنَّها تسمو بالفكر الإنساني على مستوى المحسوسات، وتأخذ بيده ليطوف به في أجواء خارج هذا العالم المحسوس.
إن كل ما أريده هو عدم الخلط بين الفلسفة والإسلام؛ بين معنى المبادئ الإسلامية وبين المبادئ الفلسفية، بين التصور الإسلامي وبين التصور الفلسفي، وأن لا نتخذ منهج الفلسفة وسيلة لفهم الإسلام وتفسير فلسفته.
 كما يجب علينا عدم إخضاع الحقائق الإسلامية لأحكام الفلسفة وقضاياها، أو بعبارة أخرى: عدم وزن القيم الإسلامية بالموازين الفلسفية، وعدم محاولة التوفيق بين الفلسفة والإسلام في كل قضاياها، وفي كل موضع؛ لأن الأولى ليست بمنزلة الثانية؛ حتى نكلف أنفسنا بتأويل الآيات أكثر مما تطيق للتوفيق بينهما.
وأخيرًا يجب إظهار فلسفة الإسلام بكامل شخصيتها، مع الإحاطة بكل جوانبها، بعيدًا عن خلطها بالفلسفات الأخرى أيًّا كان نوعها؛ لأن الفلسفة ليست كلها حقًّا في ذاتها، ولا في كل مبادئها، وليس الفلاسفة بمعصومين، في حين أن الإسلام بخلاف ذلك؛ فإنه كله حق؛ لأنه موحى من عند الله، وهذه الحقيقة يجب أن نتنبه إليها دائمًا.



15:18

العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام

حاولنا أن نكشف في الصفحات القليلة السابقة عن مدى احتياج الإنسانية إلى الإسلام؛ كمنهاج لحياتهم، وطريق لسعادتهم، وفي سبيل ذلك حاولنا إبراز روح الإسلام في بعض جوانبه، وفلسفته فيها، ثُمَّ ميزتها على الفلسفات والأديان الأخرى، كما عرفنا مدى موافقته لفطرة الإنسان، وطبيعة خلقته.
بيد أنَّ هذه الرُّوح لم تبق على أصالتها في أذهان الناس؛ بل شوهت وتغيرت، حتى اختلطت روح الإسلام بروح الأديان الأخرى، وامتزجت فلسفته بفلسفات الفلاسفة، وعندئذ لا تبدو ميزة الإسلام على هذه الأديان والفلسفات، ولم تعد تلائم فطرة الناس، بعد هذا التشويه والتغير.
هذا التشويه هو الذي جعل الناس يبتعدون عن الإسلام، ويتهربون منه، حتى إذا دُعُوا إليه، وإلى السير على منهجه؛ عادوا الداعي، ولم يلتفتوا إلى دعوته.
 وإذا أردنا عودة الناس إلى الإسلام فلا بد أن نزيل هذا التشويه عن منهاج الإسلام أولاً وقبل كُلِّ شيء؛ ولكن لا يمكن ذلك إلا بالتعرف على الأسباب والعوامل التي أدت إلى تشويهه؛ لذا بات من واجبنا أن نبحث اليوم عن أهم العوامل التي أدت إلى تشويه روح الإسلام، ثم نبين موقفنا، وكيفية التخلص من هذه العوامل؛ حتى تكون دعوتنا إلى الإسلام من جديد دعوة صافية، تبحث في روحه، بعيدًا عن هذه العوامل وأثرها فيه.
(1) السياسة
 لعبت السياسة دورًا كبيرًا في تشويه روح الإسلام - منذ ظهوره إلى يومنا هذا - وذلك عندما اتخِذ الإسلام وسيلة لتحقيق المآرب الشخصية، ومطية للوصول إلى أهداف دنيوية.
غير أنَّ هذه الحقيقة لا تبدو واضحة إلا إذا شرحنا السياسة وأنواعها؛ من سياسة المسلمين، وسياسة الاستعمار، وسياسة الاستشراق، وبينَّا دور كل واحدة منها في التشويه، عند ذلك يتجلى ما قلناه بوضوح.
سياسة المسلمين
ظهرت السياسة الإسلامية على مسرح الحياة أول مرة بعد أن تكونت الدولة الإسلامية في المدينة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاشت الأمة الإسلامية تحت قيادته الرشيدة في وحدة سياسة، ولم تظهر خلال عهده كله خلافات تمثل جماعات إسلامية سياسية، أو بعبارة أخرى أحزاب سياسية تُمَثِّلُ اتِّجاهات مختلفة.
وبعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - مباشرة ظهر أول خلاف سياسي في اجتماع السقيفة، يمثل ثلاث جماعات: الأوس، والخزرج، والمهاجرين.
بيد أن ذلك لم يستمر، ولم يؤدِّ إلى التفرقة في صفوف الأمة، واستمرت الحال أيضًا في هدوء وسكينة إلى آخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبعد مقتله مباشرة ظهرت الخلافات السياسية بين طوائف الأمة، التي جلبت على الإسلام والمسلمين فيما بعد أضرارًا بالغة الخطورة، وآثارًا سيئة، لا تزال تعاني منها الأمة إلى يومنا هذا!
ذلك أن الأمة قد انشقت بعد مقتله إلى حزبين؛ حزب يناصر عليًّا، والآخر يوالي معاوية، ثم انقسم حزب علي إلى حزبين؛ حزب تشيع له، وأخذ على عاتقه الدفاع عنه والانتصار له؛ وسمي شيعيًّا، والآخر خرج عليه، وسمي هذا الحزب خوارج؛ وبذلك تكونت ثلاثة أحزاب متخاصمة ومتحاربة، كل واحد يحارب الآخر، وجاء العباسيون بعد ذلك يحاربون الأحزاب الثلاثة السابقة.

فكم من معارك دارت بين هؤلاء وأولئك، حتى ذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء هذه الأمة، ما لو قاموا بحرب ضد العدوان الخارجي، لأخضعوا رقاب الأعداء، وفتحوا العالم، ونشروا الإسلام في ربوعه.
كما أنهم لم يتجنبوا إراقة دماء المسلمين في سبيل تحقيق أغراضهم الشخصية، كما لم يتجنبوا اتخاذ الإسلام ستارًا أمام أطماعهم الفردية، وأداة طيعة؛ يؤولون آياته، ويضعون أحاديث مكذوبة، كل ذلك لتثبيت اتجاههم، وتحقيق مزاعمهم، وقد أدخلوا مبادئ غريبة على الإسلام، ثم صبغوها بصبغته؛ لتكسب نصرًا.
من هذه المبادئ والمفاهيم الدخيلة: ما ذكره الشيعة من أن عليًّا - رضي الله عنه - وَصِيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الخلافة حق له ولبَنِيهِ دون غيرهم من الناس، وبذلك جعلوا الخلافة وراثية.
وقالوا: إنه لم يمت، وتطرف بعضهم حتى قال: إنه نبي في التقدير، وأخطأ جبريل في التنزيل، وزاد آخرون في تطرفهم هذا حتى ألَّهُوه!
ومن المفاهيم الغريبة على الإسلام: ما أتى به الخوارج من تكفير المسلمين، وتحليل دمائهم وأعراضهم!
كما أدخل الأمويُّون المبدأ الملكي في نظام الحكم بدل الشورى، فأصبح الحكم وراثيًّا لبني أميَّة، فلا يناله غيرهم ولو كان أحق منهم وأجدر بهذا المنصب، وبذلك جلبوا على الأمة ويلات وفتنًا.
وكل هذه المبادئ التي ذكرناها، والتي لم نذكرها - لم يراعِ مبتدعوها عند وضعها حُكْم الإسلام، ولا مصلحة الأمة، وإنما راعَوْا مصلحتهم الشخصية، وهدفهم الذاتي.
ثم ظهرتْ بعد هذه الأحزاب السياسيَّة مذاهب أخرى غير سياسية، وإن كان ظهورها نتيجة لهذه الأحزاب؛ مثل المرجئة، والمعتزلة، والجبرية، والأشعرية، والماتريدية، وبظهور هذه الفرق ظهرت آراء ومفاهيم متعددة متناقضة.
 وقد اتخِذ الجدل والتأويل وسيلة لتأييد فكرة، أو للتغلب على الخصم في أحايين كثيرة، كما ظهرت بحوث جدلية في موضوعات فرضية؛ فكان ضررها أكثر من نفعها.  
كما كان لحكم بعضِ الخُلَفَاءِ دَوْرٌ كبير في تشويه روح الإسلام، في أذهان كثير من الناس، ذلك أنهم حينما كانوا يحكُمون باسم الإسلام كانوا يحكمون بالظلم والاستبداد، وقتل الأبرياء إن اعترضوا طريقهم، أو أوجسوا منهم خيفة، مع أن الإسلام يمنع القتل بالشبهة، ولكن هذا ما كان ليثير اهتمامهم؛ بل كان يهمهم سلامة أنفسهم ودولتهم كيفما كان الأمر، ومع ذلك فهم صبغوا أفعالهم هذه بالصبغة الإسلامية.
 وما كان لتؤثر أفعالهم هذه في تشويه حكم الإسلام لو أنهم لم يبرروها تبريرًا دينيًّا، ولم يسندوها إلى حكمه؛ ولكن عند ما سلكوا هذا المسلك أصبحت أفعالهم وصمة في جبين الإسلام، مما دعا جماعة المستشرقين إلى القول بأن نظام الحكم في الإسلام نظام دكتاتوري استبدادي؛ يعطي الحاكم حق الحكم المطلق، فما يفعله الحاكم يقره الإسلام، وهي التي جعلت المسلمين أيضًا يخشون من الحكم الإسلامي عندما يُطالبون بإعادته إلى شؤون الحياة في العصر الحديث.
هذا ويُمكنا أن نلخِّص في النقط الآتية النَّتائج السيئة التي أدى إليها اتخاذ الإسلام وسيلة لأهداف سياسية فيما يأتي:
أوَّلاً: تشويه بعض الناس لروح الإسلام، وذلك بتأويلات بعيدة لنصوصه، وبإدخال مبادئ ليست منه؛ والهدف الأساسي من ذلك هو إثبات مواقفهم المنحرفة، وتبرير اتجاهاتهم المخالفة للإسلام باتخاذه سندًا لها.
ثانيًا: تفريق الأمة إلى فرق وأحزاب كثيرة، متعددة الأهداف، مختلفة الأشكال، حتى كان هدف بعضها حرب الإسلام والمسلمين، مستترًا وراء شعارات إسلامية!
ثالثًا: أنَّها أوجدت ثغرات لينفث منها الأعداء سُمومَهُم ضد الإسلام والمسلمين.
رابعًا: ابتعاد المسلمين عن دينهم، ثم عزل الإسلام عن مجال الحياة.
سياسة المستعمرين
لقد استرعت أنظارَ الأعداء الحالةُ التي صار إليها المسلمون - نتيجةً للسياسة السابقة - من ابتعادهم عن دينهم، وعدم تمسكهم بوحدتهم، وكثرة فرقتهم وخلافاتهم فيما بينهم.
كذلِكَ رأَوْا أنَّ الحالةَ الَّتِي آلَ إلَيْها أمْرُ المُسلِمِينَ لا تُساعدهم على الدفاع عن أنفسهم، ومن ثم يمكن أن يندسوا بين صفوفهم؛ ليزيدوا الطين بِلة.
من أَجْلِ هذا اتَّجهوا إلى احْتلال البلاد الإسلامية، وابتلاعِها شيئًا فشيئًا، فاحتلُّوا أوَّلاً الأندلس، ثُمَّ الهِنْد والجزائر وهكذا، حتى وقعت البلاد الإسلامية كلها في قبضتهم، إلا بعض الأجزاء البسيطة منها.
ولكن الاستعمار لم يأمن على استقراره وبقائه؛ لأن المسلمين، وإن آلوا إلى هذا المصير؛ فإن الإسلام ما دام له حيوية، وقرآن يتلى عليهم بالمفهوم السابق، فلا بد يومًا أن يوقظهم من سباتهم، فينفضوا الفتور والأوهام، ويعيدوا مجدهم وسلطانهم ووحدتهم كما كانوا من قبل.
إذًا ماذا يصنعون؟ فاتخذوا قرارًا وهو أنه لا بد من بذل الجهد لتشويه روح الإسلام، ولا بد من تشكيك المسلمين في عقيدتهم، وفي قيمة مبادئهم الدينية؛ حتى تموت روح العاطفة الدينية في نفوسهم، وحاولوا في نفس الوقت رفع قيمة مبادئهم فوق المبادئ الإسلامية، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية اتخذوا الخطوات الآتية:
- إثارة الخلاف بين الفرق الإسلامية.
- تشجيع رجال الدين غير الإسلاميِّين على النَّيْل من المبادئ الإسلامية والانتِقاص منها.
- خلق مذاهب بشعارات إسلامية، يرأسها بعض الأفراد المنحرفين المنتسبين إلى الإسلام، هدفها نقد الإسلام بالباطل، وخلق آراء وتفسيرات للإسلام تخالف روحه، وتشوه جوهره.
ودور إنجلترا في الهند وباكستان يمثل هذا الاتجاه خير تمثيل، فإنها إبان استعمارها هذه البلاد حثَّت أولاً رِجَال الدين المُعادين لِلإسْلام على الطَّعن في المبادئ الإسلامية، إلى جانب دعايتها المغالية للمسيحية، ثم عملت على خلق مذهب يخضع لِحكْمِها، ويسير وفقًا لهواها.
وقد اصطُنع السيِّد أحْمَد خان لهذا الغرض، فبدأ هذا العميل يعمل دوره الخسيس ضد الإسلام باسم التقدمية، وتحت شعارات إسلاميَّة أطلقها على جماعته ومجلته.
فمن أعماله: أنَّه فسَّر القرآن على أساس المبادئ الطبيعية، وفي سبيل ذلك ارتكب أفحش التأويلات؛ بعد أن حرَّف كثيرًا من المفاهيم الصحيحة عن مواضعها.
وأصدر مجلة باسم "تهذيب الأخلاق"، فكان لا ينشر فيها إلا ما يثير الشقاق بين المسلمين، ولا سيما بين مسلمي الهند والعثمانيين، وجهر فيها بخلع الأديان، ولا يقصد منها إلا الإسلام؛ ولهذا سمي أتباعه بالدهريين، أو الطبيعيين.
كما أنشا مدرسة سماها المدرسة المحمدية؛ لتنشئة أبناء المسلمين على أفكاره السامة.
ولكن مهما كانت آثاره واضحة، فإنه لم يستطع تحقيق كل ما كانت ترجوه إنجلترا من وراء حركته؛ ولهذا اتجهوا من جديد لإنشاء مذهب آخر، عُرِف بالمذهب القادياني، ومؤسسه: ميرزا غلام أحمد.
فقد ادعى هذا أنه نبي حَلَّ فيه روح عيسى ومحمد؛ ليفسح المجال لهؤلاء المستعمرين المسيحيين؛ حتى يتخللوا صفوف المسلمين أولاً، وليجدوا الاستقرار والأمان في ديار المسلمين ثانيًا.
ثم ادعى أنه أوحي إليه، كما ادعى أن الجهاد ليس معناه العنف والقوة، وإنما هو وسيلة للإقناع؛ وذلك ليُميت روح الجهاد والمقاومة في نفوس المسلمين، وأخيرًا دعا المسلمين إلى الولاء للإنجليز، وإلى إطاعة حكمهم.
بعد هذا أنشأ مذهبًا آخر، وعُرف بالأحمدية؛ لخدمة أغراض الاستعمار الإنجليزي، سواء كانت هذه الخدمة بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة.
من هذا كله يبدو لنا بوضوح أنه كان هناك للاستعمار غرضان هامان من وراء هجومه على الإسلام بالوسائل المختلفة؛ أحدهما: تشويه روح الإسلام، وثانيهما: الاستقرار في الوطن الإسلامي.
سياسة المستشرقين
قبل بيان الدوافع التي دفعت المستشرقين إلى دراسة الإسلام، وأهدافهم منها - نود أن نعرفهم، ونعرف أصولهم.
فالمستشرقون هؤلاء الذين درسوا العلوم الإسلامية من الذين لا يدينون بالإسلام، والذين بحثوا عن أصلهم وجدوا أكثرهم يهودًا، ثم يليهم في الكثرة المسيحيون.
أما الدوافع التي دفعتهم إلى دراسة الإسلام، فهي ما يلي:
أولاً: محاولتهم دراسة اللغة العبرية؛ باعتبارها لغة نصوص الديانة المسيحية، وهذا قادهم إلى دراسة اللغة العربية؛ لوجود اشتقاق بينهما.
وبعد هزيمة الصليبيين وقيام إصلاح ديني في أوروبا - بدؤوا يهتمون بدراسة الإسلام.
ثانيًا: القيام بالتبشير؛ لنشر المسيحية بين المسلمين.
وهنا اتصلت مصلحة المبشرين بالمستشرقين من جهة، واتصلت مصلحة المستعمرين بالمستشرقين والمبشرين من جهة أخرى؛ ذلك أن المستعمر والمبشر احتاجا إلى المستشرقين؛ لأنهم يعرفون الإسلام ولغته، فيعرفون كيف يدسون عليه، وبذلك ازداد نشاطهم، وزاد اهتمامهم بدراسة الإسلام.
ثالثًا: حب الاطلاع على الثقافة الشرقية؛ دينية كانت، أم أدبية، أم تاريخية.
رابعًا: تشكيك المسلمين في دينهم، وتضليلهم، وأكثر مَن اتجه نحو هذا الاتجاه[1] من المستشرقين، هم مستشرقو اليهود ثم المسيحيين.
وليس ما نراه اليوم عند هؤلاء بغريب علينا؛ إذ إن هذا كان غايتهم من قديم الزمان، ولقد كشف لنا القرآن غايتهم هذه، فقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي نبهتنا إلى نواياهم وأهدافهم السيئة نحو المبادئ الإسلامية.
هذه هي الدوافع التي أدت بهم إلى هذا الموقف من الإسلام بعد تطورات في الأهداف.
وأما أهدافهم في العصر الحديث، فتنحصر في الهدفين المهمين الآتيين:
الأول: هو محاربة الإسلام ومحوه من الوجود، إن أمْكَنَ؛ وإلا فإبعاد المسلمين عنه على الأقل.
الثاني: هو إبقاء المسلمين في تأخُّرهم، وخلق التخاذل الروحي في نفوسهم؛ وذلك بالوسائل المختلفة التي ذكرنا بعضها فيما مضى، وسنذكر بعضَها الآخر فيما يأتي[2].
ولتحقيق الهدف الأول اتَّخذوا الوسيلتَيْنِ الآتيتَيْنِ:
الأولى: نقد قيمة المبادئ الإسلامية بالوسائل الخداعة، والدعاوى الباطلة.
فمن ذلك قولهم: إنَّ مُحمَّدًا ليس رسولاً، وإنَّ القرآن ليس كتابًا منزلاً من السماء؛ وإنما هو نسخة، نسخه محمد من كتابي العهدين القديم والجديد (التوراة والإنجيل).
وإن الإسلام ليس دينًا؛ لأنه يدعو إلى التمتع بلذائذ الدنيا، ويتدخل في تنظيم حياة الناس من جميع الجوانب، فالدِّين لا يتدخل في مثل هذه الأمور؛ وإنما الدين الحقيقي لا يهتم إلا بجانب العبادة، أو الجانب الروحي من حياة الإنسان.
ومن ذلك أيضًا قولهم: إن المبادئ الإسلامية غير صالحة للتطبيق على الواقع في العصر الحديث؛ لأنها تدعو إلى الدعة، والكسل، والتأخُّر؛ لارتباطه بالقضاء والقدر.
 وغير ذلك من الدعاوى الباطلة التي يدرك بطلانها من كان عنده أدنى إلمام بحقائق المبادئ الإسلامية.
والثانية: رفع شأن المبادئ المسيحيَّة، وجعلها مقياسًا عامًّا لمبادئنا؛ فإنهم أسقطوا قيمة المبادئ الإسلامية، حتى أخرجوها من الدين، وقالوا بأنها غير صالحة للتطبيق على الواقع، ورفعوا قيمة مبادئهم؛ حتى جعلوها مقياسًا عامًّا لمبادئ الإسلام؛ فإن وافق مبدؤنا مبدأهم يقولون: إنه مبدأ سليم، وإن خالف فهو باطل.
وقد أشار القرآن إلى اتجاههم هذا، فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقال أيضًا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. 
فكأن كل مبدأ من مبادئهم حقٌّ لا يتطرَّق إليه الشكُّ، وكل مبدأ من مبادئنا لا يتفق معها باطل.
ومِمَّا يؤسِفُنا أن نرى بعض دعاة الإسلام - ولا سيما المثقَّفين منهم - قد تأثَّروا باتِّجاه المستشرقين؛ فهم حين يرون مبدأ إسلاميًّا ينقده المستشرقون؛ لعدم موافقته لأحد مبادئهم - يقومون بمحاولات بعيدة عن روح الإسلام للتَّوفيق بينهما.
كما نجدها في تعدُّد الزوجات؛ حين وجدوه لا يوافق ما عندهم، فقالوا: إن آية التعدد وإن أباحت التعدد؛ إلا أن الآية الثانية وهي {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] تنزل الإباحة منزلة الحرام، ولو أنَّهم خطوا خطوة أخرى لقالوا: إن الآية الثانية نسخت الأولى.
مثل هذه المحاولات المتأثرة باتجاه المستشرقين؛ نَجِدُ أمثالها كثيرًا لدى المسلمين، في كثير من القضايا الإسلامية ومبادئها، وهذا الاتجاه منهم أخطر على الإسلام من عمل المستشرقين، واتجاههم نفس الاتجاه؛ إذ إنهم بذلك يَجعلون مبادئ المستشرقين مقياسًا لمبادئنا من حيث لا يشعرون، ثم إن هذا إن دل على شيء؛ فإنما يدل على قِلَّة الاعتزاز بالإسلام، والغفلة عن أغراض المستشرقين وخدعهم.
ومن وسائل خداع المستشرقين أيضًا: تظاهرهم في وصف بعض المبادئ الإسلامية بمظهر المنصف العادل؛ لنصدقهم في وصفهم الجائر للمبادئ الأخرى، وفي ذلك تشويه ما بعده تشويه؛ إذ إن بعض المبادئ يكون بذلك حقًّا، وبعضها الآخر باطلاً في أذهان الناس.
ومنها أيضًا إنشاؤهم أكاديمية علميَّة للمقارنة بين الأديان، وإعلانهم عنها بأنهم سوف لا يخضعون في أحكامها وقراراتها للأهواء والعواطف الدينية؛ بل سوف يعطون كل ذي حق حقه؛ كما تهديهم إليه عقولهم وبحوثهم الخاصَّة لقوانين البحوث العلمية، المجردة من التعصب والانحياز.
مع ذلك نرى نجد أكاديميتهم العلمية - كما يقولون - لم تغير الزاوية التي كانوا ينظرون منها إلى الإسلام قبل ذلك، ولا تزال أحكامُهم تُشْعِرُ بأنَّها صادرةٌ عنِ التَّعصُّب، والتحيُّز إلى دينهم، فإنَّهم ما داموا قد جعلوا مبادئهم مقياسًا عامًّا - حتَّى في أكاديميتهم - فلا يُمكِنُ أن تظهر الحقائق أو يصلوا إليها، وبالتالي فلا يوثق بما يصدرون من النتائج العلمية فيها.
إذًا لا بدَّ من أن نُحدِّد موقِفَنا منهم؛ وذلك بألا نصدق ما يصدرون؛ لظهور سوء نياتهم، وقلبهم للحقائق وتغطيتها بالأباطيل، وأن نعتبر مبادئ الإسلام مقياسًا وميزانًا للمبادئ الأخرى، ولا نكون بذلك دوجماطقيين[3] على حد تعبيرهم؛ بل هم دوجماطقيون في الحقيقة؛ فإنهم يتظاهرون بمظهر مَن يحب الفكرة الفلسفية الحرة، والاتِّجاه الفلسفي في البحوث، الذي لا يرى إلا الوصول إلى الحقائق؛ فإذا بنا نراهم رأي العين دجماطقيين في فكرتهم، وفي اعتقادهم، وفي بحوثهم؛ لا يخضعون للحق وإن ظهر أمامهم كالشمس، ويتمسَّكون بمبادئهم ولو كان بطلانها واضحًا.
إلى جانب هذا لا نقف سلبيين، ولا نكتفي بِمُجرَّد الدِّفاع؛ بل نتَّخِذُ أسلوب الهُجوم الدِّفاعي؛ ندافع عن ديننا، وفي نفس الوقت نهاجم مبادئهم المحرَّفة عن أصل المنهاج الإلهي، واتِّجاهاتهم الخادعة، كما نبيِّنُ في نفس الوقت حكمةَ مبادِئِنا، وفَلْسَفَتِها الحقيقية.
نعم ما كنا بحاجةٍ إلى هذه الرُّدود، وكان من الممكن أن نتركهم وما يخوضون؛ ولكن هجومهم الجائر على الإسلام والمسلمين لا يتردَّد صداهُ بيْنَ المُسْتَشْرِقين وَحْدَهُم؛ لأنَّهم يُعْلِنونه بيْن جماهير شعوبِهم؛ بل يتخطَّوْنَ حدودَهُم فيَنْشُرون قَدْحَهُم واتِّهاماتِهم بين الأمم كلها، فبهذا يجعلون الناس يكرهون الإسلام والمسلمين.
من أجل هذا وذاك لا بد من أن نناقشهم، ونرد عليهم بكل شجاعة واعتزاز، ثم نقارن بين مبادئنا ومبادئهم؛ حتى يرى هؤلاء وأولئك مدى سمو مبادئنا، ورفعة شأنها، وعلوها من جميع الجهات، وأعتقد أننا لو استطعنا إظهار فلسفة الإسلام - كما هي - فإنها كفيلة بدحض كل الحجج ضدها، وإخضاع كل متنكر لها.
لهذا فعلينا أن نُحَدِّد موقِفَنا إزاء السياسة بوجه عام بما يأتي:
1- عدم اتِّخاذ الإسلام في أيِّ موقف من المواقف وسيلة لأغراض سياسية، وإعلان الحرب على من يَتَّخِذُه وسيلةً لَها.
2- عدم التعاون مع أي حزب أو طائفة أو مذهب يتخذ الإسلام شعارًا له؛ إلا بعد البحث عن حقيقته، وأهدافه البعيدة، والدوافع التي دفعته إلى تكوينه؛ لنعرف مدى صلته بالإسلام، وإخلاصه له؛ لأنَّنا قد عرفنا كثيرًا من الجماعات أضرَّت بالإسلام والمسلمين باسم الإسلام. 
  3- أن نكون على حذر تام من الأعداء؛ ولا سيما المستشرقين، ومن الذين يدعون إلى الإسلام، ولهم صلات بأعداء الإسلام؛ لأن أعداء الإسلام من سياستهم اتخاذ العملاء لهم من المسلمين؛ لقضاء مآربِهم بواسطتهم ضد الإسلام والمسلمين.
(2) الفلسفة 
وكانت الفلسفة هي العامل الثاني من العوامل التي أدت إلى تعقيد روح الإسلام، وتشويه جوهره؛ ذلك أنها عندما انتقلت إلى العالم الإسلامي بواسطة الترجمة؛ فإنها قد أثارت موجة من الشك، انتشرت في جميع الشعوب الإسلامية.
وكان هذا الشك الذي أثارته شاملاً لجميع جوانب الإسلام، وكل القيم والمبادئ التي جاء بها، وليس هذا ببعيد عن الفلسفة؛ بل إنه نتيجة ضرورية لها في بداية الطريق، أو المرحلة الأولى من إنشائها؛ لأن من منهجها الشك في قيمة الشيء قبل أن تصدر حكمها عليه، وبذلك تجعل نفسها حاكمًا عامًّا على كل القيم؛ بل على الوجود كله أيضًا.
وكانت الطامة الكبرى على الإسلام والمسلمين حين عظمها العلماء الذين اشتغلوا بها، وأعطوها حق هذه السلطة العليا، كما فعله البعض، أو رفعوها إلى منزلة الإسلام على الأقل، كما فعله البعض الآخر.
عند ذلك حاولوا التوفيق بين الإسلام والفلسفة، بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الفلسفية، واتخذوا منهاج الفلسفة وبراهينه في الاستدلال على العقائد الإسلامية، وإزالة الشبهات والشكوك في الأمور الكلية أو الجزئية التي أثارتها الفلسفة، أو أثاروها هم أنفسهم بسببها.
ويا ليتهم نجحوا في التوفيق بين الفلسفة والإسلام في كل المواضع التي حاولوا التوفيق فيها، ويا ليتهم استطاعوا إزالة الشكوك عن المواضع التي شككت فيها، بطريقة مقنعة.
بل في سبيل التوفيق حرَّفوا بعض المفاهيم الإسلامية عن مواضعها حينًا، وقد أدخلوا في الإسلام من المبادئ الفلسفية حينًا آخر، وفي سبيل دفع الشكوك والشبهات التي أثارتها الفلسفة أثاروا شبهات أخرى بطريقة جدلية، اتَّخذوها أُسلوبًا لهم في الدفاع والنقاش.
وفي هذه الحالة اتَّسعتْ شُقَّة الخلافِ بَيْنَ العُلَماء، وكثُرَتِ الفِرَقُ في الأُمَّة، وبقي كثير من الناس في حيرة من أمر دينهم، وبذلك تحقَّقتْ كهانة أحد مطارنة قبرص، عندما استشاره رئيسهم في إرسال هذه الكتب الفلسفيَّة إلى المأمون حين طلبها منه؛ قال: الرأي أن نستعجل بإنفاذها إليه؛ فما دخلت هذه العلوم العقليَّة على دولة شرعية إلا أفسدتْها وأوقعت بين علمائها، فأرسلها إليه[4].
وليس معنى ذلك أنَّ الإسلامَ يُخالف العقل أوِ الفلسفة، وإن خالفَ عقليَّة بعض الأفراد؛ لأنَّ عقليَّة الأفراد جزئيَّة لا تمثل مفهوم العقل ككل؛ وإلا لما كان هناك اختلاف بين الناس عامة، وبين الفلاسفة بوجه خاص، وليس في استطاعة أحد الاستدلال على أن فلسفة رجل معين أو عقليته يمثل العقل بمفهومه الكلي.
 إذًا لا نستطيع أن نقول إن الإسلام يخالف العقل أو الفلسفة؛ إذا خالف عقل رجل معين أو فلسفته، وإذًا ليس من الحكمة أبدًا محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة في كل موضع، إذا بدا هناك تعارض، وإنه من الخطأ أيضًا محاولة إخضاع المفاهيم الإسلامية كلها للمفاهيم الفلسفية؛ إذ لا يكون ذلك في كثير من الحالات إلا بحمل النصوص الإسلامية على ما لا تطيق، وتأويلها تأويلاً بعيدًا عن روحه؛ وهذا لا شك إخراج للدين عن طبيعته السهلة المستساغة لدى العامة والخاصة، إلى مفاهيم معقدة.
وكان دافع العلماء إلى التوفيق هو اعتقادهم عصمة الفلسفة، إلى جانب اعتقادهم عصمة الإسلام، وإذا كانت الفلسفة حقًّا، والإسلام حقًّا؛ فلا بد أن يتفقا؛ ولهذا حاولوا التوفيق بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الفلسفية من جهة، وبين آراء الفلاسفة المختلفة أو المتناقضة من جهة أخرى.
وكان الفارابي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا أشخاصًا بارزين بين الذين سلكوا في هذا الاتجاه؛ الاتجاه نحو التوفيق بين الدين والفلسفة، مع تفاوت بينهم في الإدراك والمحاولة، وقد أخذت صورة التوفيق نمطين مختلفين:
النمط الأول: وهو عبارة عن شرح الحقائق الدينية المجملة بالآراء الفلسفية المفصلة.
فابن سينا مثلاً يُفَسِّر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
فإنه فسر هذه الآية بالأفكار الفلسفيَّة الأفلاطونية المحدثة؛ ففسر النور: بالخير، والسماوات والأرض: بالكل، والمشكاة: بالعقل الهيولاني[5]، والمصباح: بالعقل المستفاد، والزجاجة: بالواسطة، وشجرة مباركة زيتونة: بالقوة الفكرية، ولا شرقية ولا غربية: فسرها بلا القوى المنطقية ولا القوى البهيمية، والنار: فسرها بالعقل الكلي المدبر للعالم المشاهد[6].
وهنا مثال للتعسف في تأويل هذه الآيات، وتحويل معانيها السهلة إلى اصطلاحات فلسفية معقدة، كما ندرك مدى التشويه الذي يطرأ على معاني الآيات بهذه التفسيرات البعيدة عن روح الإسلام.
وإخوان الصفا قد فسروا العرش والكرسي: بالأفلاك، فالكرسي هو الفلك الثامن، وهو ملك الكواكب الثابتة الواسعة، المحيط بالأفلاك السبعة تحتها، أدناها القمر ويليه عطارد، وفوقه الزهرة، ومن بعده الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل.
كما فسروا السماوات السبع بهذه الكواكب السبع المتحركة، والعرش: هو الفلك التاسع الثابت، المحيط بجميع الكواكب الثمانية تحته[7]، كما سار على هذا المنوال الفارابي في تفسير بعض الآيات والمفاهيم الإسلامية.
ومن أراد الاطلاع على تفسيرات هؤلاء بالتفصيل، فليرجع إلى كتبهم؛ ليقف تمامًا على مدى التعسف الذي ارتكبوه من أجل التوفيق.
النمط الثاني: وهو تأويل الحقائق الدينية بِما يتَّفِقُ مع المبادئ الفلسفية.
وهذا النمط أخطر من سابقه؛ لأنه يؤدِّي إلى الخَلْطِ والمزج بين الدين والفلسفة، وبالتالي يُؤَدِّي إلى تَغْيِير طبيعة كل واحد منهما.
وكان على رأس الذين اتجهوا هذا الاتجاه في التوفيق: الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشد، غير أن توفيقه أدق وأبعد عن التعسف والشطط اللذين وجدناهما عند السابقين.
فقد حاول الفارابي: التوفيق بين رأي الإسلام في حدوث العالم ورأي الفلسفة في قدمه؛ فقال مرَّة بحدوثه؛ باعتباره أثرًا لله؛ وذلك إرضاء للدِّين، وقال مرة بقدمه إرضاء للفلسفة؛ وذلك باعتبار أنَّ العالم حدث لا في زمان؛ فهو في التصور الزماني قديم.
ومِثْلُ هذه النَّتيجة المُضْطَربة التي انتهى إليها في مُحاولته في هذه النقطة - كانت النتيجة التي وصل إليها في كثير من الموضوعات؛ مثل الثنائيَّة[8] بين الفلسفة والدين، وطبيعة النفس ونظرية الفيض، وما إلى ذلك من الموضوعات التي فشل فيها فشلاً ذريعًا، وما فشل إلا لمحاولته التوفيق بين رأيين متناقِضَيْنِ.
هذه بعض الأمثلة قدَّمْنَاها؛ لتكون لدينا دليلاً على صدق ما ندعي من أن اتجاه التوفيق بين الإسلام والفلسفة في كل موضوع - اتِّجاه خاطئ، قد أدى إلى تعقيد الإسلام، كما أدى إلى تعقيد الفلسفة في نفس الوقت.
ومِمَّن تأثَّر بالفلسفة أيضًا كثير من علماء الكلام أو التوحيد، وكان تأثُّرهم هذا واضحًا كل الوضوح في برهنتهم على وجود الله وعلى وحدانيته؛ إذ إنهم في استدلالهم على وجود الله تأثروا - إلى حد كبير - بالأدلة الفلسفية الموروثة، وكادوا أن يقصروا نظرهم عليها، وأن يكتفوا بها، ذلك أنَّنا عندما نستقرئ أدلَّتَهُم على وجود الله؛ نَجِدُ أنَّها تَهتمُّ وتعتمد على دليل جوهر الفرد، ودليل الإمكان أو الوجوب، ودليل العِلَّة والحدوث، وما أشبهَ ذلك.
وهذه الأدلَّة الفلسفيَّة أدلَّة مُعقَّدة، جامدة، بليدة، لا تُثِيرُ النفس، ولا تقوي الإيمان، وبعبارة أوضح فإنَّها لا تَخْلُق في النفس الإيمانَ القويَّ، الإيمان الحي النابض، ومن جهة أخرى فإنَّها غَيْرُ مُستساغة، لا تتلاءَمُ مع عقليَّة العامَّة، ولا يهضِمُها إلا كِبَارُ العُقُول، وأحيانًا تترك في جوانبها الشكوك والحيرة، وتؤدي إلى جَدَلٍ عقيم.
أمَّا الأدلَّة التي اعتَنَى بِها القُرآن، والتي لم تَلْقَ من هؤلاء كبير الاهتمام هي دليل الاختراع، ودليل العناية، هذه الأدلة هي أدلة القرآن؛ لأنها أدلة عامة تلائم جميع العقول، ولا تترك في جوانبها شيئًا من الشكوك، إضافة إلى هذا فإنها أدلة حية، تخلق إيمانًا حيًّا.
وكما تأثروا بالمنهج الفلسفي في الاستدلال على وجوده تعالى، تأثروا أيضًا بالجدل المنطقي في مناقشة العقائد الإسلامية؛ فبحثوا عن أمور في العقيدة كانوا في غنى عنها؛ مثل هل الصفة عين الموصوف أم هي زائدة عليه؟ وهل الوجود عين الموجود أم غيره؟ وهل صفات الله قديمة أم حديثة؟ وهل كلام الله قديم أم حادث؟ وهل يخلق الله بإرادة قديمة أم حادثة؟
وفي سبيل الإجابة عنها قدَّموا فروضًا عجزوا عن الوصول إلى نتيجة مرضية في كثير من الموضوعات؛ مثل هذه البحوث في مثل هذه الأمور التي تدور حول العقيدة - قد أدَّتْ بِهِم إلى التَّفْرِقة فيما بينهم وبين أتْباعهم أيضًا، وإلى تعقيد العقيدة الإسلامية بعد أن كانت سهلة واضحة.
كما أنَّ هذه التَّصرُّفات قدِ استنفَدَتْ مِنْهُم مَجهوداتٍ عقليَّة، لو بَذَلُوها في ميدان العلم التجريبي لقطعوا به مرحلة واسعة النطاق؛ فأفادهم في حياتهم المادية من جهة، وأفادهم أيضًا في الوقوف على آيات الله في الكون من جهة أخرى[9].
من أجل هذا فإن الصحابة - رضي الله عهم - كانوا يتجنَّبون البحث في هذه الأمور، وكانوا يُعْنَوْنَ بِنَشْرِ الإسلام بَيْنَ الشُّعوب، والتَّفكير في الآيات الكونيَّة، إلى جانب عملِهم من أجل دنياهم؛ ولهذا عاشوا متَّحدين أقوياءَ الإيمان، عمليِّين بدلاً من أن يكونوا جدليِّين.
وكما تأثَّر بالفلسفة علماءُ الكلام، كذلك تأثَّر بِها الصوفية، فأدخلوا في الإسلام من المفاهيم الفلسفية، والتَّصوُّرات الفلسفيَّة البعيدة عن التَّصوُّر الإسلامي ومفاهيمه، وسوف نشرح هذا بشيء من التفصيل في موضوعه الخاصِّ.
ولست أريد بنقد هذا الاتجاه الخاطئ من العلماء التشنيع عليهم، والنيل منهم، والتقليل من جهودهم في سبيل الإسلام؛ فإنَّني إن كنت نقدتهم في عمل من أعمالهم، أو اتجاه من اتجاهاتهم في موقف معين، أو إزاء دراسة معينة؛ فليس معنى ذلك أنَّني أنقدهم في كل موقف وقفوا فيه، أو في كل عمل عملوه.
ولا أقول: إنَّهم منحرفون عن الدراسة الصحيحة عن قصد؛ وإنما أقول: ربما أرادوا الصواب فأخطؤوا الطريق الذي يوصلهم إليه، وأرادوا الدفاع عن الإسلام فاتخذوا وسيلة ظنوا أنهم بذلك يستطيعون الدفاع بها، فكانت عكس ما توهموه.
وإن كل ما أريده هو تنبيه علماء اليوم إلى الاتجاه الخاطئ؛ حتى لا يقعوا فيما وقع فيه السابقون، وليبعدوا الإسلام عن المفاهيم المعقدة، التي لحقت به من جراء خطئهم.
بعد هذا أود أن أبيِّن أيضًا: أنني لست عدوًّا للفلسفة، ولست من المانعين لقراءتها وتدريسها؛ بل إن الفلسفة في نظري قد تساعدنا على فهم فلسفة الإسلام، كما تساعدنا في فهم كثير من القضايا الإنسانية في مراحل تاريخها الطويل، ومدى تطوُّر التفكير الإنساني كلما يقطع مرحلة من مراحل حياته؛ هذا إلى أنَّها تسمو بالفكر الإنساني على مستوى المحسوسات، وتأخذ بيده ليطوف به في أجواء خارج هذا العالم المحسوس.
إن كل ما أريده هو عدم الخلط بين الفلسفة والإسلام؛ بين معنى المبادئ الإسلامية وبين المبادئ الفلسفية، بين التصور الإسلامي وبين التصور الفلسفي، وأن لا نتخذ منهج الفلسفة وسيلة لفهم الإسلام وتفسير فلسفته.
 كما يجب علينا عدم إخضاع الحقائق الإسلامية لأحكام الفلسفة وقضاياها، أو بعبارة أخرى: عدم وزن القيم الإسلامية بالموازين الفلسفية، وعدم محاولة التوفيق بين الفلسفة والإسلام في كل قضاياها، وفي كل موضع؛ لأن الأولى ليست بمنزلة الثانية؛ حتى نكلف أنفسنا بتأويل الآيات أكثر مما تطيق للتوفيق بينهما.
وأخيرًا يجب إظهار فلسفة الإسلام بكامل شخصيتها، مع الإحاطة بكل جوانبها، بعيدًا عن خلطها بالفلسفات الأخرى أيًّا كان نوعها؛ لأن الفلسفة ليست كلها حقًّا في ذاتها، ولا في كل مبادئها، وليس الفلاسفة بمعصومين، في حين أن الإسلام بخلاف ذلك؛ فإنه كله حق؛ لأنه موحى من عند الله، وهذه الحقيقة يجب أن نتنبه إليها دائمًا.
اختلاف طبيعة الدين وطبيعة الفلسفة
لقد عرضنا فيما سبق كيف أدى اختلاط الفلسفة بالدين إلى تشويه روح الدين، كما بينا أن محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة خاطئة، تؤدي إلى أضرار بالغة الخطورة في النهاية؛ ذلك أن طبيعة الدين تختلف عن طبيعة الفلسفة من جهتين مهمتين:
الأولى: أن الدين أساسه الوحي، بينما نجد أن أساس الفلسفة هو الآراء والأفكار، أو العقل النسبي، والوحي والعقل النسبي (العقل البشري، عقل محمد وعلي وأبي بكر) قد يتفقان وقد لا يتفقان، قد يتعارضان وقد لا يتعارضان؛ فإن عقل الإنسان قد يستطيع إدراك معقولية جميع جوانب الإسلام ومبادئه، وقد لا يدرك؛ وعلى هذا الأساس فعندما نحاول التوفيق لا بد من إرجاع أحد الطرفين للآخر.
فمن هنا يجب أن نعتبر أحد الطرفين معيارًا، فإذا جعلنا الدين معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الفلسفة للدين، ومعنى ذلك أيضًا أننا جعلنا الفلسفة دينًا، وإذا جعلنا الفلسفة معيارًا فمعنى ذلك أننا أخضعنا الدين للفلسفة؛ أي أننا جعلنا الدين فلسفة، وإذا جعلنا الطرفين معًا معيارين متقابلين، فمعنى ذلك أننا رفعنا مستوى العقل إلى مستوى الوحي، وهذا لا يجوز؛ لأن مستوى الوحي فوق مستوى العقل البشري.
الثانية: أن الدين لا يقبل التطور من حيث المبادئ العامة، فلا نستطيع أن نضيف إليه عقيدة جديدة أو نظرية جديدة، ولا نستطيع أن نحذف منه شيئًا، وإلا يخرج الدين عن طبيعته الأصلية بمرور الزمان.
أما الفلسفة بخلافه؛ لأن مجالها واسع، ويمكن أن يتطور، ويمكن أن نضيف إليها النظريات الجديدة، كما وقع بالفعل في مختلف الفلسفات، وكذلك يمكن أن نحذف منها شيئًا.
فإذا نحن وفقنا بين الدين وفلسفة عصر معين، فإننا لا بد من أن نغير مفهوم الدين في كل عصر وفقًا لتطور الفكر الفلسفي، وبذلك نكون قد جعلنا الدين تابعًا ذنيمًا للفلسفة.
بقي شيء آخر هام لا بد من إيضاحه، وهو أن هذه الفلسفة الإسلامية المتداولة الآن إذا كانت ليست فلسفة إسلامية حقًّا، وإذا كانت لا تعبر عن الفلسفة الإسلامية - فما هي الفلسفة الإسلامية؟ وكيف ندرسها ونستخرجها كاملة إلى حيز الوجود؟
وللإجابة عن السؤال الأوَّل نَقُولُ: إنَّ الفلسفة الإسلاميَّة هي الفكر الإسلامي الذي يُعالَجُ به جميع القضايا الفلسفية، أو هي الرأي الإسلامي في جميع المجالات الفلسفية، التي تشمل كل القضايا الإنسانيَّة التي لا يُمكن معالجتها عن طريق العلوم التجريبية، أو التي لا تخضع وتدخل في نطاق المعمل العلمي؛ إذًا فهي تشمل دراسة الأخلاق والعقائد والعبادات، والسياسة والاقتصاد، والدراسات النفسية والروحية والعقلية، وهنا قد يقول القائل: إن هذه القضايا قد درسها رجال الإسلام أيضًا من قبلنا؛ فالفقهاء درسوا العبادات والاقتصاد والسياسة، والمتكلمون درسوا العقائد، والصوفية درسوا الأخلاق، والفلاسفة المسلمون درسوها من الوجهة الفلسفية.
فماذا يكون موقفنا من هذه الدراسات؟ ومن أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وكيف يكون منهجنا في هذه الدراسات؟ هذه الأسئلة الثلاثة مجتمعة تحدد جوانب الإجابة عن السؤال الثاني الذي سألناه من قبل، وهو كيف ندرس هذه الفلسفة ونستخرجها إلى حيز الوجود كفلسفة متكاملة متناسقة، تمثل حقًّا الفلسفة الإسلامية الحقيقية؟ إن منهجنا لدراسة الفلسفة من جديد يتلخص في النقط التالية:
أوَّلاً: نبدأ من الإسلام، فنجعل أرضيَّة دراستنا هي الإسلام (النصوص الإسلامية)، فكل دارس يأخذ قضية معيَّنة من القضايا السابقة أو جزءًا منها كموضوع الدراسة، ويعالجها من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة الفكر الإسلامي بادئًا من النصوص الإسلامية (القرآن والسنة).
ثانيًا: أن نحدِّد موقِفَنَا من دراسات السابقين، باتِّخاذها وسيلة من وسائل الفهم؛ لنستفيد من مَجهود الفهم، ولكن لا نأخذ كل دراساتهم مأخذ القبول، ولا نتخذها كبداية ولا كنهاية؛ لا نأخذها كبداية نبدأ بها، ولا كنهاية ننتهي إليها؛ وإنَّما نكون واسطةً بيْن البداية والنهاية.
والخطورة كل الخطورة أن نتخذ هذه الدراسات كبداية ونهاية، وإلا نكون قد أدخلنا أنفسنا في متاهات قد لا نستطيع أن نخرج منها، أو نكون قد أدخلنا أنفسنا في معمعة من الدراسات، ندور فيها كحلقة مفرغة لا ندري أين طرفاها.
وعلى كل؛ سواء استطعنا أن نخرج منها أو لم نستطع، فإننا بذلك لا نستطيع أن نقدم شيئًا سوى أن نقدم رأيًا على رأي، أو التوفيق بين الرأيين، أو إبطال البعض وإبقاء البعض الآخر.
ولكننا بذلك لا نكون قد خدمنا الفلسفة الإسلامية، وإنما نكون قد خدمنا فلسفة هؤلاء الرجال، ونحن لا نريد الآن أن نخدم الرجال؛ وإنما نريد أن نخدم الإسلام؛ ولهذا قلت لا بد أن يكون الإسلام هو البداية وهو النهاية في نفس الوقت.
ثالثًا: أن يكون هدفنا هو معالجة المشاكل الفلسفية المعاصرة المتصلة بحياتنا الراهنة، المشاكل الإنسانية الفلسفية التي يعاني منها الناس جميعًا، نعالج هذه المشاكل من زاوية الفلسفة الإسلامية الصافية، لا من زاويتنا، ولا من زاوية التيَّارات الفكرية الفلسفية المعاصرة، ولا من زاوية آراء السابقين.
وبذلك نستطيعُ أن نقدِّمَ الفلسفة الإسلامية الصافية، ونستطيع أن نعالج مشاكلنا عن طريق فلسفتنا الإسلامية، وبذلك نَجعل الفلسفة الإسلامية تساهم في حل مشكلاتنا خاصة، ومشكلات الإنسانية الفلسفية عامة.
(3) الطرق الصوفية
وكانتِ الطرق الصوفيَّة أيضًا من جملة العوامل التي أدت إلى تشويه المفاهيم الإسلامية، ويجب أن يعرف أوَّلاً أنَّ هناك فرقًا شاسعًا بين مفهوم التصوُّف في الإسلام وبين تصوُّف المتأخِّرين الذي يتمثَّل في الطُّرُق الصوفيَّة، فإنَّ هذه الطُّرق قدِ انْحَرَفَتْ عن أصْلِها الإسلامي، وإذا أشَرْنا إلى تاريخِها بالإيجاز، وبيَّنَّا كيف زاد انْحِرافُها كلَّما قطعت مرحلة من مراحل حياتها - عند ذلك فسوف يتَّضِحُ ما قُلْنَا.
وقبلَ هذا أوَدُّ أن أُبَيِّنَ مصدر كلمة صوفي؛ قيل إنَّها منسوبة إلى صوفة؛ اسم رجل كان يعبد الله في البيت الحرام، وقيل إنَّها منسوبة إلى الصوف؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحب لبسه، لأنَّه علامة الخشونة والخضوع، وقيل إنها منسوبة إلى الصفاء، وقيل إنها منسوبة إلى سوفيا، وهي كلمة يونانية ومعناها حكمة؛ غير أن أنسب الأقوال هو أنها منسوبة إلى الصوف، وتؤيدها الصيغة الصرفية.
وعلى أي حال فإنَّ التصوُّف في عهد الرسول كان عماده الزهد والتعبد والخشوع، وغايته نيل رضوان الله، والخوف من عقابه وعذابه، وإن لم يكن هذا الاسم يطلق على مَن كانت سيرتهم هذه في ذلك العهد، وإنما كان يسمى من عرف بهذه السيرة بالتقي أو العابد.
 ثم تطور هذا المفهوم إلى أن صار هدفه هو التعبُّد لله حبًّا له، لا رغبة في رضاه، ولا طمعًا في ثوابه، ولا خوفًا من عقابه.
وفي المرحلة الثانية: من تطوُّره تدخَّلتْ فيه المبادئ الأجنبيَّة؛ دينيَّة كانت أم فلسفية، أو ممزوجة بهما جميعًا.
وفي المرحلة الثالثة: حصل تطوُّر مرَّة ثانيةً في غايته؛ إذ إنَّها أصبحتْ تَنْحَصِرُ في مُطالعة الذَّات الإلهيَّة، ومُشاهدة الجمال الإلهي الأزلي.
وفي المرحلة الرابعة: وصل إلى قمة الانحراف؛ فاتصل بالظريات الغريبة على الإسلام، المتباينة مع مبادئه؛ مثل نظرية الفناء في الله، ووحدة الوجود، والاتحاد أو الحلول، وغيرها من المبادئ التي انتقلتْ إلى العالم الإسلامي من الشَّرق والغرب إبان اتِّصاله بِهما.
وفي المرحلة الأخيرة[10] ظهرت هذه النظريات وتلك المبادئ في ثياب التصوف عارية مكشوفة، وأصبح التصوف اتجاه طائفة أو جماعة من الناس، تؤلف فيه الكتب الممزوجة بالمبادئ الإسلامية والفلسفية والديانات الأخرى معًا.
ومِن ثَمَّ بدأ يَختلِفُ المتصوِّفُون فيما بَيْنَهُم، ويَذْهَبُونَ مذاهِبَ شتَّى وطرائِقَ قِدَدًا، حتَّى أصبحتْ هُناكَ عشراتُ الأنواع من الطريقة الواحدة، لها طريقةٌ معيَّنة في التسبيح والتهليل مع تزمير المزامير وضرب الدف، وكل واحدة تدَّعي لنفْسِها أنَّها على حق والأخرى على باطل، كما يدعي بعضهم بأنَّه يتَّصل بالمغيبات، ويظهر الخوارق للعادة، وأنه يشفي المريض بنفخة في وجهه أو لمسة بيده، ويقولون بعض الكلمات يظهرون بها أنفسهم أنَّهم أولياء؛ مثل قولهم ما في الجبة إلا الله، أو أنا الحق، وغيرها من الكلمات، التي ما كان الرسول يقولها ولا صحابته الكرام من بعده مع علو منزلتهم وسمو مكانتهم عند الله.
وقد لا يرضى عن هذه العبارات أتباعُهم؛ لأنهم يحاولون دائمًا الدفاع عما صدر منهم من كلمات لا يرضى عنه الإسلام غير أن ما نعلمه من صورة الولاية وسيلة لكسب المعاش وأثر هذه الكلمات في إظهار أنفسهم بمظهر الولاية في نفوس الناس.
هذه الأمور وغيرها تدفعنا إلى عدم الثقة بهم، حقًّا نحن لا ننكر وجود الصالحين منهم، ولكنني عندما أتكلم إنما أتكلم عن الظاهرة بوجه عام.
ومن مظاهر هذه الطرق الصوفيَّة أنَّها تدعو إلى تَرْكِ الدُّنيا والعَمَلِ من أجْلِها، وعدم الاعْتِناء بِشُؤُونِ الحياة، أو بعبارةٍ أوْضَحَ أنَّها تدعو إلى الكَسَلِ والشَّعْوَذَة، والدَّعة والتكاسل، والاهتمام بالروح ومطالبها وحدها، وهذا الاتجاه أقرب إلى اتجاه المسيحية منه إلى الإسلام؛ ذلك أن المسيحية تتَّجه دائمًا إلى الاعتناء بالروح، أما الإسلام فإنه كما يعنى بشؤون الروح يعتني بمثله بأمور الدنيا، وقد بينا ذلك في الفصل الأول بالتفصيل.
أضف إلى هذا أن تعدُّد هذه الطرق تشجع أعداء الإسلام على تشويهه بالوسائل المختلفة، حينًا بفتح طريقةٍ ظاهرُها إسلامي وباطنها حرب عليه وعلى مبادئه، وحينًا آخر بالهجوم عليه بأنه دين تأخر وخرافة؛ حتى إن كثيرًا من المسلمين الذين يجهلون حقيقة الإسلام أساؤوا الظن بالإسلام؛ لأنَّهم حين رأَوْا هذه المظاهر الشَّعْوَذِيَّة من أهل الطرق - ظنُّوا أنَّ ذلك انعكاسٌ لِرُوح الإسلام، وأن الإسلام يأمر بذلك ويدعو إليه.
بقِيَ أن نُبَيِّنَ بعد هذا أنَّ هذه الطُّرُقَ بِدْعَةٌ مُخالِفةٌ لِسُنَّة العبادة التي أكملها الإسلام شكلاً وموضوعًا، فإنَّ أيَّ تَغييرٍ فيها بالزِّيادة أو النقص يُعْتَبَرُ بِدْعَةً، وإذا أوْرَدْنا تعريفَ البِدْعة لدى العُلماء فَسَوْفَ نَجِدُ أنَّه مُنْطَبق عليها؛ فقد عرفها بعض العلماء بأنَّها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، أو يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله، وعرفها الآخرون بأنها كل ما وجد وحدث بعد الرسول، وإن كنتُ أرجِّح تعريف الأول؛ لسبب آخر أذكره بعد قليل، فإن كلا التعريفين على أية حال ينطويان عليه.
 وقد يستدل هؤلاء بصحة هذه الطرق بدعوى أنها من البدعة الحسنة، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سن في الإسلام سُنَّة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا))[11].
ولكن ليس معنى هذا الحديث أنه يدعو إلى الاختراع في الدين؛ فإن جانب العبادة والعقيدة لا يقبل الاختراع بأي حال من الأحوال، بدليل أن الرسول أنكر على الجماعة الذين عزم بعضهم بأنه يصوم الدهر، والآخر أنه يقيم الليل كله، والثالث أنه لا ينكح النساء أبدًا، وما ذلك إلا لأنهم تجاوزوا حدود العبادة وزادوا عليها، وكذلك منع الله الزيادة على العبادة المقررة[12]، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[13] [المائدة: 77]، والغلو هو الزيادة والتشدد في أمر الدين.
وأما مجال الحديث ((من سن سنة حسنة... إلخ)) ففي جانب التشريع وأمور الدنيا، بدليل أن الرسول أباح إعمال العقل في هذا الميدان، فهو حين أرسل معاذ بن جبل أباح له إعمال عقله فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
يدل على هذا أيضًا أقواله في تأبير النخل، وحفر الخنادق، واختيار أحسن موقع في حرب بدر، مثل هذه الأمور من السنة الحسنة، ومنها أيضًا اختراع عمر الديوان، واختراع الصحابة تدوين الأحاديث.
وعلى هذا فإن معنى السنة الحسنة هو الإرشاد والهداية، وبيان طريق الخير للناس في شؤون الدنيا، والبدعة السيئة اختراع طرق للشر والفساد.
هذا وقد جاء الخطأ حينًا من الخلط بين البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية؛ فالبدعة الحقيقية ما خالف الدين شكلاً وموضوعًا، والبدعة الإضافية ما خالف الدين شكلاً لا موضوعًا.
وقد غاب على كثير من الناس هذه الحقيقة، فظنوا أن البدعة الإضافية مشروعة، لها سند من الدين؛ لوجود أصل لها ثابت في الدين من حيث الموضوع، فليس فيها تغيير إلا من حيث الشكل، فمثلاً نجد أن أصل الصلاة على النبي ثابت بالنص، ولكن تركيبها مع الأذان غير ثابت، فهذا التركيب بدعة إضافية؛ لأنه ثابت موضوعًا لا شكلاً.
ومثال آخر وهو أنه إذا كان التسبيح ثابتًا بالنص، فليس لأحد أن يزيد في عدد ركعات الصلاة المفروضة، بدعوى أنه بذلك يكثر التسبيح وذكر الله.
روي عن ابن عباس  - رضي الله عنه - أنه مر يومًا بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى حلقات من الناس وفي أيديهم حصى، فيقول أحدهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ويقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فقال: "ما تصنعون؟!"، فقالوا: "حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح"، فقال: "ويح أمة محمد! ما أسرع هلكتكم... أومفتتحو باب ضلالة"، فقالوا: "ما أردنا إلا الخير"، فقال: "كم من مريد للخير لم يصبه"، وقال أيضًا: "اتبعوا، ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
فهذا دليل على أنه لا يجوز الابتكار في شؤون العبادة، وكأن ابن عباس قال ذلك استنادًا إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
هذا شأن العبادات؛ لا اجتهاد فيها ولا استنباط؛ لأن الله أكملها وحددها شكلاً وموضوعًا على الهيئة التي أراد بها عبادته، فلا يحق لنا أن نتدخل فيها بتغيير شيء من ذلك كمًّا أو كيفًا.
ثم إن العبادة لا تتأثر بتطور الزمان والمكان، بخلاف ذلك جانب التنظيم والتشريع من الإسلام، فإن الإسلام أكمل هذا الجانب من حيث وضع الأسس العامة والنظريات الرئيسية، أما تحديده من حيث جميع الجزئيات والشكليات، فذلك متروك للناس في كثير من الأحوال، ينظمون حياتهم بتنظيمات وشكليات تخضع لهذه الأسس العامة؛ لأنَّ هذا الجانب تتأثر بتطور الزمان وتطور حياة الناس، فلا بد أن تكون فيها شيء من المرونة، ولا يضل الناس مهما تغيرت الحياة وتطورت ما داموا سائرين على هدي هذه الأسس؛ لأنها طريق واضح أمام المسلمين لكل زمان ومكان، وسوف أتناول هذه النقطة بشيء من التفصيل في موضعها المناسب في الفصل الآتي إن شاء الله.
بعد هذا بقي أن نحدد موقفنا من هذا العامل.
موقفنا من هذه الطرق 
ثبت في هذا البحث مدى خروج الطرق الصوفية عن المنهج الإسلامي، سواء كان من حيث اتجاهها العام في الحياة، أو من حيث مزج مفاهيمها بالمبادئ الفلسفية والديانات الأخرى، أو من حيث إن مراسمها المختلفة التي اخترعوها للتعبد - بدعة خارجة عن حدود التعبد في الإسلام.
وإذا كان الأمر كذلك فعلينا إذًا أن نحاربها ونلغيها، ونعلن براءة الإسلام منها، وأنها تشوه المفاهيم الإسلامية في الخارج والداخل، ثم نشرح هذه الحقائق في جميع الشعوب الإسلامية بكل الوسائل التي يمكن اتخاذها.
يقول بعضهم: إن علينا إصلاحها، فإنَّ الأخطاء تصلح بالتوجيه والإصلاح، لا بالإلغاء والإعدام.
حقًّا هذا الاعتراض له وجاهة لو كنَّا بحاجة إليها، ولا يمكن لنا الاستغناء عنها؛ لكنَّا لسنا بحاجة إليها؛ لأن الإسلام منهاج واحد، وطريقة واحدة، فإن التمسك به من جميع جوانبه، والسير على طريقته ومنهاجه هو تطبيق الإسلام على الوَجْهِ الصحيح، وهو الذي يجمعنا جميعًا في صف واحد، ويوجهنا إلى جهة واحدة؛ أمَّا إنشاء الطرق المختلفة باتجاهات ومراسيم متنوعة، فما هي إلا تفريق الأمة، وإفشاء الخلاف بين علمائها، وانحلال قوى الوحدة في نفوسها، وفتح الثغرات لدخول النفوذ الأجنبي، وظهور الآراء المنحرفة في صفوف المسلمين.
وأخيرًا ينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ نقدي للطرق الصوفية، لا للتصوف أو الحياة الروحية في نطاق الإسلام، قد يساء بي الظن أنِّي بهذا الموقف من الطرق قد ظلمتها، غير أنني لو ذكرت لكم رأي الإمام القشيري فيها - وهو من أعلام التصوف - في تصوف هؤلاء؛ لظهر أن حكمي عليهم أخف من حكمه.
يقول: "حصلت فترة في هذه الطريقة؛ لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيوفهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعَدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الفضلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاع بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا أنطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا؛ بل صرفوا"[14].
وإذا كان الإمام القشيري يهاجمهم بما هم عليه في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، فما بالك بما آلت إليه أحوالهم بعدَهُ حتَّى يومِنا هذا.
وليس ما قلتُه هنا مجرد ملاحظات لبعض الطرق؛ بل هو عن دراسة واعية، وملاحظات مباشرة للطرق في مختلف البلاد.
وليس ما قلتُه هنا أيضًا هو كلُّ نتيجةِ دراستِي وملاحظاتي؛ بل كل ذلك سيأتي موضحًا ومفصلاً في رسالة خاصة أعدها بعنوان "نشأة الطرق الصوفية، وعلاقتها بالإسلام"، وما ههنا إلا مجرد لمحات وإشارات مناسبة لحجم الكتاب، ذكرتها كعامل مشوه لروح الاسلام، وشعاري الأخير هنا هو أن الإسلام طريق واحد، لا يحتاج إلى الطرق.
(4) فوضى التـأويل
أشرت في بعض المناسبات - فيما سبق - إلى دور فوضى التأويل في تشويه روح الإسلام؛ ولكن هذه الإشارات لما كانت غير كافية للإحاطة بدورها في هذا الميدان، احتجت إلى أن أخصه بعنوان؛ ليكون دورها واضحًا كل الوضوح في نظر القراء.
وقبل توضيح ذلك أريد بيان الحقيقتين الآتيتين؛ لأنهما بمنزلة ميزان نزن به مدى خطر هذا العامل في هذا المجال.
أما الحقيقة الأولى: فهي أن الإسلام منهاج جاء ليتبعه الناس ويسيروا عليه، بدلاً من أن يسير وفقًا لهوى الناس ويسير تبعًا لآرائهم المختلفة؛ بل هو ميزان لجميع القيم، جاء لتوزن به الحقائق والقيم، لا ليوزن هو بما يضعه الناس من القيم والمناهج.
وأما الحقيقة الثانية: فهي أن الإسلام يهدف دائمًا إلى تحقيق المطالب الأساسية للفرد في حدود القيم والمبادئ التي جاء بها، دون إضرار بمصلحة الغير؛ فلا يسمح للفرد بتحقيق مطالبه بأية طريقة كانت، ولو على حساب الآخرين.
غيْرَ أنَّ التَّأويل حين أصبح فوضى، بدون قيد ولا شرط، وحين أصبح وسيلة لتبرير الاتجاهات الشخصية، بإيجاد سندٍ لها من الدين بأية طريقة كانت، حين غيَّر المؤولون المنحرفون الحقيقتين السابقتين، فعكسوا القضية الأولى بقصد أو بغير قصد؛ بجعل آرائهم ميزانًا، وأهوائهم واتجهاتهم منهاجًا، ثم حاولوا إخضاع الآراء الإسلامية لآرائهم، ومنهاجه لمناهجهم؛ وبذلك جعلوا الإسلام عرضة لأهوائهم، وأستارًا يخفون وراءها سوء نياتهم.
وقد حذرنا الله من اتباع هؤلاء؛ لسوء مصيرهم في النهاية، فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وغير ذلك من الآيات يندد بهذا الاتجاه.
إنَّ الفكرة يجب أن تنبع من قلب الإسلام، لا أن تعتنق من الخارج أو من هوى الناس، ثم تفرض على الإسلام فرضًا.
وكانتِ النتيجة الحتمية لهذا الاتجاه الخاطئ أنْ أصبحت هناك مناهج مختلفة، واتجاهات متعددة بين صفوف الأمة الإسلامية، ومن ثَمَّ تعدَّدت الآراء، وتشتت الأمة، وأصبح الإسلام عرضة لآراء وأفكار متناقضة، ونظريات متهافتة.
وفي ذلك تشويه وتشويش؛ تشويه لروح الاسلام من جهة، وتشويش على فكر الأمة من جهة أخرى.
وكذلك تغافلوا عن الحقيقة الثانية كما فعله البعض، أو جهلوها كما فعله البعض الآخر.
إن الإسلام لا يتعارض أبدًا مع مصلحة الناس كأفراد وجماعات، ولا يقف أمام مطالبهم ما داموا يطلبونها في حدود القيم الأخلاقية والدينية، وما داموا يطلبونها بطريقة لا تضر الآخرين إن عاجلاً أو آجلاً.
غير أن بعض الناس يرسم لنفسه طريقًا للوصول إلى هدفه، فلا يستشير الإسلام قبل رسم طريقه: أهو موافق للمبادئ الإسلامية أم مخالف لها؟ ثم يجد الإسلام يعارضه، ففي هذه الحالة، إما أن يحاول التوفيق ولو بطريقة تعسفية، فيُحمِّل الآيات ما لا تطيق، وبذلك ينفذ طريقته غير الشرعية باسم الشريعة، ولو أضرت بمصلحة الأفراد والجماعات.
وإما أن يقول: إن الإسلام يعارض مصلحة الناس، وفي كلتا الحالتين يصبح الإسلام مظنة سوء، حقًّا إن الإسلام يقف أحيانًا في طريق الناس، ويعارض بعض الوسائل التي يتخذونها لقضاء مآربهم؛ لأن ما فيها من الأضرار أكثر مما فيها من المصلحة التي يلاحظونها، أو لأن ما يترتب عليها من الأضرار سوف يحدث في المستقبل، وهم لا يدركونها لأنهم لا ينظرون إلا إلى القريب العاجل، وأحيانًا يقف الإسلام سدًّا أمام مصلحة الفرد من أجل مصلحة المجتمع، إذا أراد تحقيق مصلحة على حساب الناس، أو بطريقة غير أخلاقية، فعدم ملاحظة هذه الأمور عمدًا أو بغير عمد من الأسباب الرئيسية في فوضى التأويل، التي رأينا بعض صور منه لدى إخوان الصفا وبعض فلاسفة المسلمين؛ أمثال الفارابي وابن سينا.
ويطول بنا المقام لو ذكرنا أمثلة لمثل هذا التأويل عند مختلف الأحزاب السياسية، والطوائف وأهل الطرق الصوفية؛ ولهذا أكتفي بما سبق، غير أنني أحاول هنا تلخيص دوافع هذا التأويل التعسفي؛ حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، فأهم هذه الدوافع أو الأسباب هي ما يلي:
أولاً: محاولة التوفيق بين الإسلام والفلسفة، كما رأينا لدى السابقين، أو بين الإسلام والمذاهب السياسية أو الاقتصادية كما نراه لدى المحدثين، وقد بينَّا خطأ هذا الاتجاه بوجه عام.
ثانيًا: محاولة إيجاد سند أو دليل من الإسلام للآراء الشخصية أو اتجاهاتها؛ حتى تجد قبولاً لدى الجمهور.
ثالثًا: تبرير الاتجاهات المنحرفة، وقد قال تعالى في حقهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
وعلى كل حال فإنها جميعًا قد أدت إلى نتائج سيئة؛ إذ إنها شوهت روح الإسلام في نفوس المسلمين وغير المسلمين على السواء؛ إذ إن المبادئ الإسلامية أصبحت بذلك متناقضة متضاربة، وصدق رسول الله حين بيَّن لنا أن مثل هذه التأويلات تؤدي إلى مثل هذه النتيجة فقال: ((إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به))، قال ذلك بعد أن نزل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
من أجل هذا كله يجب أن نحدد موقفنا من هذا التأويل، وذلك:
أولاً: بإعلان حرب شعواء على فوضى التأويل.
ثانيًا: إعادة النظر إلى النصوص ودراستها، بعيدًا عن الخلافات المذهبية والحزبية، متخذين الهدف الأساسي للوصول إلى الفهم الصحيح.
ثالثًا: وضع قانون للتأويل وحدود نسير داخل قيوده.


نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة