آخر المواضيع

mardi 17 avril 2012

09:24

تحرير الإنسان

تحرير الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .
وبعد
لقد كرم الإسلام الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70 .
وهذا التفضيل عام يشمل كل إنسان مؤمن وغير مؤمن .
ومن ألوان التفضيل أن خيره بين الإيمان والكفر , على أن يتحمل عاقبة اختياره .
فلم يكفِ أن سخر الله له ما في الأرض جميعًا ليحمله بذلك على الإيمان قسرًا , ويجبره على التوحيد جبرًا ؛ بل ترك له الاختيار على الرغم من كل ذلك !
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ... } الكهف29 .
ودعاه الله تعالى لإعمال عقله , وإيقاد فكره :
لعلكم تعقلون , أفلا تذكرون , قل سيروا في الأرض فانظروا , أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها , يفقهون بها .... الخ .
ومن مظاهر هذا التكريم : أن جعل ثوابت الإسلام أقل بكثير من دائرة الاجتهاد والمباحات والتي هي ( دائرة مفتوحة وقابلة لتعدد الأفهام، وتجدد الاجتهادات، ومن شأنها أن تختلف فيها الأقوال، وتتنوع المذاهب. وهذه الدائرة تشمل معظم نصوص الشريعة وأحكامها.
فهي دائرة مرنة منفتحة. وهذامن رحمه الله بعباده، لتتسع شريعته للعقول المتباينة، والمشارب المختلفة، والوجهات المتعددة ) د / القرضاوي .
ومنها : إقامة العدل والميزان حتى لا يظلم الإنسان أخاه الإنسان :
{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }الرحمن9 .
لهذا الأمر عاتب الله عز وجل نبيه – صلى الله عليه وسلم – عندما وقف مدافعا عن رجل سرق سيفا واتهم به يهوديا : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }النساء105
وأمر الله النبي بالاستغفار عن ذلك : {وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء106
وجعل ميزان التفاضل بين الناس لا يقوم على ما يمتلكه الإنسان من المادية الزائلة :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.
كما عوتب صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه ؛ لأن هناك ميزانا جديدا , ميزان الله , وقيم الله التي يجب أن تستقر في الأرض بين البشر و تقام في واقع الناس .
بل إن الإسلام أمر بالتواضع حتى لا يتطاول أحد على أحد : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد ) حديث حسن , خرجه السيوطي - في صحيح الجامع عند الألباني .
وحرر الإسلام العبيد ودعا إلى ذلك بمنح الحوافز , وإجزال الثواب , بإطعام الطعام وعتق الرقاب , حتى قطع دابر العبودية من ديار المسلمين , وكان من قبل يدعو إلى حسن معاملتهم ( الصلاة وما ملكت أيمانكم الصلاة وما ملكت أيمانكم ) . صحيح خرجه السيوطي .

وحرر الإسلام المرأة :

واقرأ إن شئت عن المرأة في الجاهليات القديمة عند الفرس والهنود والإغريق واليهود وعندالعرب قبل الإسلام .
أما في الغرب فإنه كان للمرأة بالفعل قضية ومعاناة ، حيث كانت " في اعتقاد وعقيدة الأوروبيين حتى مئتي سنة مطيّة الشيطان، وهي العقرب الذي لا يتردد قط عن لدغ أي إنسان ، وهي الأفعى التي تنفث السم الزعاف ...
في أوروبا انعقد مؤتمر في فرنسا عام 568م ، أي أيام شباب النبي صلى الله عليه وسلم ، للبحث هل تعدّ المرأة إنساناً أم غير إنسان ؟ وأخيراً قرروا : إنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب !
والقانون الإنجليزي حتى عام 1805 م كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته بستة بنسات فقط، حتى الثورة الفرنسية التي أعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة لم تشمل المرأة بحنوِّها ، والقاصرون في عرفها : الصبي والمجنون والمرأة ، واستمر ذلك حتى عام 1938 م ، حيث عُدِّ لت هذه النصوص لصالح المرأة إن أصل القضية في الغرب يعود لاحتقار الكنيسة النصرانية للمرأة احتقاراً جعل رجالها يبحثون إذا كان ممكناً أن يكون للمرأة روح ، وهذا ما حصل " في مؤتمر " ماكون Macon " وما شفع بالمرأة آنذاك هو كون مريم أم يسوع امرأة ولا يجوز أن تكون أم يسوع بلا روح "
إن أصل القضية إذاً بدأ من سوء فهم للدين المسيحي من بعض القائمين على الكنيسة ومن هؤلاء القديس بولس الذي قال : إن المرأة خُلقت للرجل، والقديس توما الأكويني الذي ذهب إلى أبعد من ذلك إذ صنّف المرأة في مرتبة بعد العبيد .

إحصائيات غربية حديثة :

نشرت مجلة التايم الأمريكية أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث من جانب الأزواج كل عام، وأنه من ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن لضرب يؤدي إلى الموت، وأن رجال الشرطة يقضون ثلث وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي.انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع إعداد لجنة المؤتمر النسائي الأول ص45.
ب- ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء تحدث بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي تُقْدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي. انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع ص46.
ج- دراسة أمريكية جرت في عام 1407هـ-1987م أشارت إلى 79% يقومون بضرب النساء وبخاصة إذا كانوا متزوجين بهن.
وكانت الدراسة قد اعتمدت على استفتاء أجراه د / جون بيرير الأستاذ المساعد لعلم النفس في جامعة كارولينا الجنوبية بين عدد من طلبته.
وفي دول أوربا نفس الأمر بلا استثناء .
وإذا كنَّا في لحظة من اللحظات أُعجبنا بامرأة شابة تعمل شرطية على الطريق أو جندية تحمل السلاح ووجدنا في هذا الأمر قوة إرادة وتحدٍّ عند من فعلن هذا ، فإن الأمر خرج عن إطار التسلية عندما أصبحنا نرى امرأة أخرى عجوزاً تبحث في القمامة أو تجوب الشوارع تجر عربتها الثقيلة لتؤمن رغيف خبزها.
أما المرأة في الإسلام فكلما تقدم السن بها زاد احترامها، وعظم حقها، وتنافس أولادها وأقاربها على برها ؛ اعترافا بحقها وما أدته لمجتمعها من تربية الأجيال من النساء والرجال .
وإذا أردنا تحري الدقة والحقيقة فإن بعض المسلمين يظلمون النساء في الميراث , فلا يطبقون نظام الإسلام ولا منطوق القرآن .
والعيب ليس في الشريعة , ولا العلماء , ولا في القانون ؛ ولكن من تغول بعض الرجال على الأقارب من النساء .
ومن هذه المظاهر :
أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المعجزة الأساسية للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – معجزة مادية ؛ وكأن البشرية قد بلغت نضجها , وفاءت إلى رشدها فعاملها الله تعالى بهذه المعجزة العقلية .
ولقد عاش المسلمون هذا الواقع وأقره الله بينهم وطبقه النبي فيهم .
قصة ابن سيدنا عمرو بن العاص مع المصري , وكلمات سيدنا عمر , ترن في الآذان , كاننا نسمعها منه الآن : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ) ! !
وهذا أبوذر يرجو من بلال أن يطأ خده بقدمه كنوع من أنواع الاعتذار !
وبلال الحبشي مؤذن الرسول . وكفى بذلك تكرمة .
بل هو الذي صعد يوم الفتح فوق الكعبة ليصدع بكلمة التوحيد فوق رؤوس الأصنام وأهلها , ويصدح بالأذان لأول مرة في أم القرى وربوعها !
والفاروق عمر يقول : سيدنا أعتق سيدنا ( أبو بكر وبلال ) رضي الله عنهم جميعًا .
بل إن أحد العرب المسلمين يتشفع بسيدنا بلال ليخطب له , وكان في خلقه ضعف في الاستقامة , فذهب بلال إلى أهل العروس , وصدقهم في وصف صاحبه . فقالوا نعلم أن خلقه كذا وكذا ولكنا لا نرد صاحب رسول الله !
ولك أن تسأل : كيف أصبحت الحياة في بلادنا مرهونة بالواسطة , وكيف صارت الحياة على أرضنا حبيسة التقرب بالمداهنة لدى أولى الأمر؟ .
وكيف لم يعد هناك نظام يحتكم إليه المواطن في تسيير يومه سوى نظام الفوضى والقرب من المحاسيب؟ .
واسأل كيف ترعرعت بين صفوفنا طبقات الطفيليات وأصبحت تهدد خبزنا وقوت أولادنا؟ .
بل كيف يهدد كل ذلك براعم التقدم و البناء, من الأجيال والأبناء ؟ .
نحن نريد تحرير الإنسان من التغول الاستعماري ومعاونيه من الحكام والسياسيين ومروجي نظامه من الصحفيين والمنتفعين .

إنهم يريدون تعبيد الإنسان , حتى تضيع الأرض والمقدسات ؛ لأن الضعفاء والمنكسرين , لن يحرروا الأرض ولا المقدسات .
وهل ترى هؤلا ء العبيد الدائرين في فلك اليهود , والسائرين خلف سياساتهم , الطاعمين على موائدهم , الذين يمدون أيديهم هناك بالخضوع والتقبيل , ويبسطونها إلينا بالضرب والتنكيل ؟ .
هل في الإمكان القول بأن محاربة شعوبنا حتى لا يقام فيها نظم ديمقراطية , وإذلال أمتنا حتى لا توجد بها مجالس نيابية حقيقية – بأن ذلك يعد عقبة كئودًافي طريق تحرير الشعوب ؟.
أستطيع أن أقول :
إن بناء الإنسان الصالح , هو الهدف الذي به تتحرر الأمة , من الطغاة ومن الاستعمار , وتقام المجالس النيابية النزيهة , والحكومات المستقلة القرار , والتي ستنعم شعوبها بالأمن والاستقرار .
وتلك هي المعركة الحقيقية :معركة بناء الإنسان الصالح .
بل إن نصوص الإسلام جاءت لتحرر الإنسان من نفسه :
من أن يكون أسيرًا لهواه , يأتمر به ويصدر عنه .
يتحرر من عبودية نفسه , فذلك الإنسان الذي ينفق ليقال عنه جواد , أو يعلّم ليقال عنه عالم , أوشجاع ومجاهد , أو ماهر وبارع .
كل هذه صور من صور عبودية النفس , يقف فيها الإنسان أسيرًا حقيرًا في محراب النفس مجانبا لخالقه , عابدا لهواه .
وآخر يعجب بنفسه يظن أنه يملك أسباب النجاح في مجال تخصصه , يستطيع أن يستدعيها في أي وقت , ليفعل بها ما يشاء .
يطربه المدح , ويهز أعطافه الثناء , وتعمل فيه كلمات المدح عملها في ذهابه وإيابه , وحله وترحاله .
كل هؤلاء وأمثالهم يدورون في فلك نفوسهم , عبيدًا لها أسرى في محرابها ؛ وهم لا يملكون إلا ماوهبهم الله من أسباب .
وهذا الصنف يعيش منكرًا لفضل ربه , جاحدا لنعمته , ليس عبدا لله , خالقه ومولاه ؛ بل عبدًا لنفسه أسيرًا لهواه .
ومن صور تحرير الإنسان وتكريمه خطاب الله الخالق العظيم لهذا الإنسان المكرم المدلل :
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } الانفطار 6 – 8 .
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) البقرة .
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) إبراهيم34 .
قال العلماء : آتاه بما ينفعه من سؤله , لأن الإنسان لايعلم عواقب الأمور مما يطلب ويرجو .

وفي الختام كلمة :

إن دين الإسلام يريدأن يعيش الإنسان مكرمًا , محررا لله وحده من عبودية أخيه الإنسان , ومن عبودية نفسه , ومن أسر شهواته .
يعيش شامخًا في هذا الكون الذي وهبه الله له واستخلفه فيه .
يعيش خاضعًا لله وحده , معترفا بفضله , شاكرا لأنعمه .
فينال عز الدنيا ونعيم الآخرة ورضوان من الله أكبر :
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) التوبة .
09:22

طبيعة الفكر الإسلامي .. وعوامل استمراره ونجاحه

 
عبد الباقي خليفة
 
ليس الإسلام أو الفكر الإسلامي قوالب جامدة، أو نصوصا حدية. ولو كان كذلك لانتهى إلى ما انتهت إليه أديان و إيديولوجيات سادت ثم بادت. ولكن الفكر الإسلامي يمتاز بقدرته الفائقة على التأقلم، وهو ما جعله يفاجئ الكثير من العلماء والباحثين، في أكثر من مكان وأكثر من مرحلة تاريخية.
فطبيعته التي تمتاز بالتكيف مع الظروف ومع التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هي التي ساهمت - بعد تعهد الخالق سبحانه – في حفظ أصوله المتمثلة في القرآن والسنة. ولذلك نجد علماء الإسلام ومفكريه والحاملين للوائه عبر الأزمنة والامكنة المختلفة يبرهنون على أن الإسلام هو الأفضل، كلما ظهرت نظرية، أو برزت قيمة فكرية، أو طرحت الأسئلة الفلسفية بمختلف أشكالها الإيديولوجية.   وذلك  يدل على طبيعة فوق عادية للقرآن والسنة، اللذين يستقي منهما الفكر الإسلامي أطروحاته.  
وهو فكر غير معصوم، مما يجعل احتمال الإصابة والخطأ في فهم النص ورادا، باعتراف علماء الإسلام في القديم والحديث. وبذلك ترفع القداسة عن الاجتهاد، والمجتهد مأجور في الحالتين، إذا توفرت النية الحسنة، وبذل الوسع في معرفة الحق.وقابلية المراجعة والتراجع ورادة، وبالتالي فإن الفكر الإسلامي، لا يعد من اليقينيات التي تظل حكرا على النص الموحى به. أما الفهوم فهي قابلة للصحة وللخطأ، وليست مقدسة، وليست وحيا من الله ولا نطقا باسمه.
وهذه الخاصية هي التي أرست التسامح الحق في الفكر الإسلامي، ورسمت آفاق تطوره وحيويته وضمنت بالتالي استمراره. فالأفكار التي أخذت طابع اليقينيات انهارت وانهارت مراجعها، عندما اصطدمت بالحقائق الموضوعية والكونية والعلمية.   وربما فهمت الأقلية العلمانية في تركيا الإسلام، بطريقة أفضل-جزئيا- من بعض المسلمين، ( وإن كان فهما ينقصه العمق ) فقد كانت هذه الأقلية المهووسة واضحة في تعريفها للاسلام بأنه " منهج حياة " ولذلك فهي واضحة في رفضها له، رغم أنها في اعتقادنا لو فهمته على حقيقته لتغيرت نظرتها إليه. فما نحاول ابلاغه لقومنا العرب، هو أن " الإسلام منهج حياة " ويجب القبول به على هذا الأساس، لا رفضه كما تفعل الأقلية العلمانية المتزمتة في تركيا، وتونس، من هذا المنطلق. والإسلام بالنسبة لنا ليس منهج حياة فحسب، بل طريقة للتفكير وللتحليل أيضا.
وانطلاقا من نظرة الإسلام للوجود و للحياة وللموت ولخلق الانسان وسعيه وأهدافه ومآلاته، تكون، أو يجب أن تكون حياة الانسان الفرد، والمجتمع، منسجمة ومتسقة مع هذه النظرة وهذه المفاهيم. إن الإسلام من الاتساع والرحابة، بما يجعله فضاء للكثير من الرؤى والأفكار، ما لم تخرج على أصوله وثوابته، أو تنزلق في خبث النية أو سوء الطوية، التي يمكن أن يمحص بعضها الراسخون في العلم، ويبقى بعضها في علم الله تعالى، مما يمنع الافتئات، ومحاسبة ما في الصدور.
وهذه ميزة أخرى للاسلام، طالما طمستها السياسة، وتعامى عنها ضيق الأفق.   والفكر الإسلامي يثبت جدارته وتميزه في وجود الخصوم الايديولوجيين، فهو-لاستمداده أصوله من الوحيين-يوظف ذلك في تطوير خطابه وتصحيحه وتقويته. ولحكمة يعلمها الله عز وجل كان وجود المشركين والمنافقين واليهود، على خبثهم وأذاهم وجودا أسهم في تجلية محاسن الإسلام لدى كل ذي فطرة سليمة.والأمر نفسه ينطبق على  وجود الفرق والمذاهب في الفترات التالية لعصر صدر الإسلام.
  من هنا ندرك قيمة القبول بالآخر في الفكر الإسلامي، ففي مجتمع المدينة لم يفرض الإسلام على اليهود التحول إلى الدين الجديد، كما لم يفرضه على المشركين. وفي الفتوحات الإسلامية لم يكن الإسلام خيارا أوحد، فقد ظل غير المسلمين على دينهم ولم يرغم أحد على دخول الإسلام، والجزية التي كانت تؤخذ منهم أقل مما يدفعه المقيمون اليوم في الغرب، وأقل بكثير جدا ( قياس مع الفارق، كمقارنة السيف بالعصا ) من تكلفة الحماية التي تفرضها الدول الغربية الامبريالية على دولنا في عصرنا الراهن. وهذا ما يغيب كثيرا على منتقدي الإسلام والمدافعين عنه على حد سواء.
وها هم المتطاولون على حكم الردة في الإسلام يتجاهلون أن هذا الحد-بدون ضوابطه الإسلامية-يطبق اليوم سرا داخل الكنيسة الأرثوذكسية حيث اختفت آثار الكثير ممن أسلموا من النساء والرجال، إذ أن حكم الردة موجود في الكتب المقدسة لدى النصارى واليهود.
تماما كتعدد الزوجات من قبل الأنبياء: ابراهيم، يعقوب، وسليمان عليهم السلام. بل يقولون إن سليمان كانت لديه 300 زوجة و900 جارية ؟!!!   وهناك أمر مهم في الفكر الإسلامي يتعلق بالعبادات التوقيفية، والأحكام ثابتة الدلالة، وأبعادها المقاصدية، فهناك من حاول إظهار تلك العبادات والأحكام بشكل حرفي، دون مقاصدها. وهناك من ركز على الأبعاد المقاصدية متجاوزا العبادات والاحكام في مظهرها الشعائري والحرفي.
وهناك طرف ثالث يصر على الصلة الوثقى ، -وهو على صواب كما نعتقد- بين الأحكام والمقاصد على حد سواء.  فمن انتهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مقاصد الصلاة، ليس في حل من الصلاة.
كما ذهب إلى ذلك بعض الغنوصيين من الصوفية. وتحقيق مقاصد العدالة لا يغني من تطبيق الأحكام، كما يرى بعض المعتزلة الجدد، ونحن نرى المعتزلة القدامى أقل انحرافاً ( في تقديرنا ) من العصرانيين اليوم. فأولئك كانوا على الأقل، يحافظون على أركان الإسلام، ورغم ضلالهم في بعض المسائل، كموقفه من مرتكب الكبيرة، لم يفضلوا كافرا على مسلم.   وعندما تحدثنا في الحلقات الماضية ( حركة التنوير الإسلامي في القرن 21 ) عن مرونة الفكر الإسلامي، قلنا إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس مطلبا آنيا، وإنما يعود إلى الرغبة الشعبية.
وتحدثنا عن مشاركة الإسلاميين في السلطة، وهي قضية لا تزال تثير الكثير من الحوارات، والآراء، وهي تعود لتقدير المكاسب والخسائر من ذلك، حسب كل قطر وحسب الظرف. فما هو غير ممكن في الوقت الحاضر قد يكون ضروريا وربما حتميا في وقت آخر. وهذا ما يجعل الجزم بهذا أوذاك، سقوطا في تثبيت ما هو متغير.   وعلى الإسلاميين بذل الوسع فكريا وسياسيا لا لاقناع الشعب فحسب، بل نخبه، بضرورة صياغة مجتمع اسلامي يتسع للجميع، من خلال تحديد عناصر هويتنا، وأهدافنا الكبرى، والأولويات التي نعالجها والتحديات التي نواجهها، ضمن استراتيجية موحدة، ثم يكون التنافس في التفاصيل، والشعب والأمة هما الفيصل في نهاية الأمر، ولا يمكن النضال ضد وصاية لفرض وصاية أخرى، من نفس النوع، أو من أي نوع آخر.

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة